نسمع كثيراً في الأفلام والمسلسلات شخصيات تقول على مائدة الطعام أو في أي تجمعات عائلية شيئاً ما حول التصرف كـ“عائلة طبيعية“, أو ربما أنت من تعيسي الحظ الذين سمعوا شيئاً من هذا القبيل في الحياة الحقيقية, لكن ماهي العائلة الطبيعية؟ وهل لها وجود أصلاً؟
أظن أنها كذبة كبيرة نحكيها لأنفسنا, عائلتك المجنونة ليست طبيعية, ولا أي من العوائل الأخرى المجنونة التي تقول عن نفسها طبيعية, بل في الواقع, العائلة الطبيعية هي التي يعتبرها المجتمع غير طبيعية, العائلة المتخاصمة مع بعضها البعض والتي لا يتكلم أفرادها مع بعضهم البعض على الإطلاق, إذ على الأقل, هؤلاء الأشخاص يتصرفون على طبيعتهم ولا يحاولون التظاهر بأنهم ”طبيعيون“, وكل من عداهم هو في الحقيقة ليس مجرد سوسيوباث.
في لُب Koselig med peis (بالإنجليزية: Norwegian Cozy / راحة نرويجية) عائلة غير طبيعية أخرى, الإبن الأكبر جورج يعود لزيارة والده الذي يكرهه, فينتهي به المطاف مضطراً للإعتناء به لأن أخيه تيري, كاتب شاب يحب الإستفزاز والسخرية ويواجه مشاكل في كتابة كتابه الثاني بعد نجاح كتابه الأول, وأمه بينتي, التي طلّقته لتعيش مع امرأة أخرى, كلاهما يكرهانه كرهاً جماً. عدة أسباب عاطفية ونفسية كانت خلف زيارة جورج هذه, أبرزها هو خوفه من أن ينتهي به المطاف كأبيه الذي أنفر الجميع منه وفقد عقله. بعد سنوات من الكراهية المتبادلة وإبتعادهم عن بعضهم البعض, أفراد هذه العائلة سيضطرون إلى مواجهة بعضهم البعض عندما تطفو ألام الماضي على السطح من جديد.
في أول مشهد في المسلسل, نفتتح بجورج في سيارته التي لا تزال في المرأب وهو يخاطب طفلاً جالساً في الكرسيّ الخلفيّ حول أمه والشجار الذي دار بينهما للتوّ, ثم يقترح جورج زيارة جدته وعمه, إقتراح قوبل بعدم إهتمام من طرف الطفل, لكن عندما اقترح جورج زيارة جده علت على محيا الطفل إبتسامة عريضة, وفور ما تنطلق السيارة تُظهر لنا الكاميرا المقعد الخلفيّ وهو فارغ. إذا من المشهد الأول نعلم أن بطل مسلسلنا هذا يعاني بالفعل من مشكل من نوع ما, مما يعني أنه ليس طبيعياً البتة. يكتسب هذا المشهد معنىً مختلفاً عندما تدرك أن تلك الإبتسامة ليست سوى إسقاط على المشاكل الأبوية المترسبة في ذهن جورج, الذي عجز طوال حياته عن نيل رضا أبيه مهما كان ما يفعله لأجله.
سافل, أليس كذلك, هذا الأب الذي يمنع أطفاله عن رضاه؟ لا تتسرعوا في الحكم, في البداية ستظنون أنكم تعرفون هذه الشخصيات حق المعرفة وسوف تحكمون عليهم بسرعة, لكنكم ستتعلمون مع مرور الوقت أن الأمور ليست حقاً بتلك البساطة, ثم إن هذه الشخصيات لن تكف عن مفاجئتكم بمخالفة كل توقعاتكم وكل تلك الأحكام التي ستطلقونها عليها.
هذه الدراما المسيرة بالشخصيات واحدة من تلك المسلسلات التي يصعب الحديث عنها بدون تقليصها إلى كليشيهات مبتذلة, والتي أنا متيقن أنها دارت برأسكم وانتم تقرأون هذا الوصف حول هذا المسلسل. في الحقيقة هذا المسلسل على الورق كان فيه كل الإمكانيات ليكون مسلسلاً جد مبتذل, وأنا شخصياً عجزت عن فهم أسباب نجاح كل تلك الأشياء التي لا يفترض بها أن تنجح في القصة, لكن تنفيذ هذا النص (من كل الجوانب: تمثيل, إخراج, سينيماتوغرافيا وغيره) نجح بأعجوبة في إيصال الأفكار الموجودة فيه بدون أن يبدو مبتذلاً البتة, القصة تسير بشكل طبيعيّ جداً وانسيابيّ للغاية. أيضاً, هذا المسلسل من النوع الذي يصعب الحديث عن الأشياء التي تجعله رائعاً بدون أن أحرق تلك الأشياء التي تجعله رائعاً, فكل ما أستطيع فعله لكم هو إعطاءكم هذه الكليشيهات وضمانتي أنه مسلسل جيد ويستحق وقتكم.
يقال لكتاب الروايات دائماً أن أفضل الفصول هي الفصول التي تعمل في القصة وخارجها, يعني أن أفضل فصل يمكنك أن تكتبه هو الفصل الذي إذا قرأه أحدهم فإنه لن يجد مشقة في فهمه وفي نفس الوقت يستمتع به ويخرج منه بشيء ما, وهذا أمر صعب. من الأشياء التي أعجبتني في هذا المسلسل القصير هو أن كل حلقة منه تعمل, تقريباً وليس كلياً, كحلقة منفصلة لكن في نفس الوقت مرتبطة جدا بالقصة.
وجدت نفسي مبهور أيضاً بجودة الحوارات, لقد كان فيها مستوى عالٍ من الذكاء, لم تخلُ من الفكاهة السوداوية المعروفة لدى الأعمال الإسكندنافية, ولو أن المسلسل لا يحاول حقاً أن يكون مضحكاً إلا أنك ستجد نفسك تبتسم بين الفينة والأخرى وربما قد يصل بك الأمر إلى قهقهة خفيفة.
تبقى مسألة كونه ”مسلسلاً نرويجياً آخر”, والتي انا متيقن أنها فكرة جالت في بالك منذ 5 دقائق, وإذا كنت لا تزال تقرأ هذه المقالة فإن ذلك لا يهمك كثيراً أو أنك على الأقل منفتح لفكرة تجريب أحدها, الحقيقة أيها القارئ أن الكمية المهولة من القصص التي يمكن أن تحكى على التلفزيون تفوق بكثير قصص تلك الشخصيات التي تعيش في نيويورك وتشرب قهوة ستاربكس وتقوم بإشارات مازحة لنجوم هوليوود في محاولة بائسة لشيء يشبه النكتة, عندما تغيّر مكان القصة فإنك تفتح لنفسك باباً جديداً من الشخصيات ذات عادات وتقاليد مختلفة, حيث الشرطيّ لا يخبرك أنه ”كبير جداً على هذا الهراء“ بينما يلتقي في مكان مظلم بمخبره السريّ الذي يقول له ”يجب أن نتوقف عن اللقاء بهذه الطريقة“, وما إلى ذلك من هذه الحوارات التي سمعناها مراراً وتكراراً.
شيء آخر يجذبني للمسلسلات الأوروبية (بما في ذلك البريطانية) هو أنها لا تصنع أبداً بهدف تطويلها لأطول مدة ممكنة, في العادة يقترح الكاتب عدد معين من الحلقات ليحكي قصته والقناة ستطلب ذلك العدد من السكربتات, ثم يتم الإتفاق ويخرج لنا مسلسل من 8 أو 6 أو 4 أو 2 حلقات, حسب ما تقتضيه القصة, على عكس المسلسلات الأمريكية التي يقوم فيها الإداريون بتحديد عدد الحلقات وليس المؤلفون (بما في ذلك قنوات الكيبل), فيتم طلب مواسم 24 حلقة من قصص من الواضح أنها لا تحتمل ذلك القدر من الحلقات والناتج يكون غالباً ممطط أو سيء للغاية (قس على ذلك الإقتباسات الأمريكية الكثيرة للمسلسلات الأوروبية والتي فشل معظمها لهذا السبب), وهذا تقريباً السبب الرئيسي الذي جعلني أترك مسلسلات الشبكات منذ فترة طويلة. طبعاً هذا لا يمنع أنه بعض المسلسلات الأوروبية أصبحت مؤخراً تقوم بتمطيط قصصها لبيعها بثمن أعلى للقنوات الأخرى عالمياً, لكن هذه حالات نادرة وليست النظام السائد, وهنا يكمن الفرق.
حالياً مع توسع نتفليكس وتزايد ظهور خدمات العرض على الإنترنت ظهر إهتمام كبير بهذه المسلسلات وأظن أن الإهتمام سيزيد أكثر مع توالي السنوات وستصبح هذه المسلسلات شيء عاديّ في جداولنا الأسبوعية (هي بالفعل كذلك للمهتمين بها جداً, مثلي), فحتى إن لم تكن مهتم الآن فمن المرجح أن يتغير رأيك عما قريب.
ولو انني لحد الساعة لم أرَ مسلسلاً أوروبياً يمكنني وصفه بأنه أفضل من أفضل الإنتاجات الأمريكية, إلا أنني أعتقد أن معظمها أفضل من غالبية ما يعرض هذه الأيام في أمريكا, و Koselig med peis يدخل في هذه الخانة.
التقييم النهائيّ
الكتابة: | الدليل على جودة الحوارات هو أنها لا تفقد قوتها بعد الترجمة | |
التمثيل: | ممثل دور الأب كان رائع للغاية, البقية جيدين كذلك | |
الإخراج: | أحلم يوماً ان أشاهد مسلسلاً اسكندنافياً بكامل الألوان | |
8.3333333333333 / 10 | قد أبالغ قليلاً, لكن Koselig med peis هو أفضل شيء خرج من النرويج منذ أولي غونار سولسكاير. قد تجد صعوبة في الحصول على هذا المسلسل لكن عندما تحده أخيراً ستدرك أنه كان يستحق تماماً ذلك العناء. |