لماذا يجبُ أن تشاهد The Leftovers

معظم المسلسلات الناجحة حالياً تمتلكُ بعض العوامل الأساسيّة الّتي تجذبُ المشاهد وتتركهُ في ترقّب دائمٍ لجديدها، لكن دائماً ما نجدُ مسلسلات تظهرُ من حين لآخر لا تجدُ قاعدة جماهيرية كبيرة لكن مع مرور الوقت وغالباً بعد انتهائها تجدُ المديح والزخم الّذي كانت تحتاجهُ بشدّة عندما كانت تُعرض. أظنّ أنّ The Leftovers من هذا النوع من المسلسلات رغم أنّهُ بدأ يجدُ زخمهُ وهو على أعتاب النهاية. لذا دعونا نتطرّقُ عن الأسباب الّتي قد تدفعنا لمشاهدة The Leftovers.

المسلسل من انتاج قناة HBO ومقتبس من رواية تحملُ نفس الاسم للكاتب توم باروتا. صانع المسلسل هو ديمون لاندولف المعروف عن مسلسلهِ المثير للجدل Lost. لنوضّح شيئاً أوّلاً قبل الخوص في التفاصيل، إذا كانت حقيقة ارتباط كاتب لوست بالعمل تجعلك تنفر منهُ فأؤكد لك أنّ مفعول السحر عكسي هنا، كيف ذلك؟ … المسلسل يستمدُ قوّتهُ من الأسئلة الغير مجابة وليس العكس، ومع مرور الوقت ستوقف البحث عن الإجابات وتنتقلُ للإهتمام بالشخصيات، لأنّ هذا ما يفعلهُ المسلسل … يجعلك تهتم بشدّة. لذا إن كُنت تبحثُ عن مسلسل يعطي إجابات فغالباً المسلسل ليس لك لكن إذا كنت تريد مسلسلاً يتحدّاك ويختبر حدود خيالك ويدمّرك عاطفيا فأنت في المكان الصحيح.
شيء آخر، بما أنّ المسلسل مقتبس من رواية وغطّاها كاملة في الموسم الأوّل، تطبّع العمل بصيغة معيّنة وفيّة للرواية في سرد الأحداث في الموسم الثاني والثالث ما يتركُ مجالاً للطمأنينة قليلاً أنّ العمل لن يدخل في متاهات في نهايتهِ مثلما فعل لوست.

مؤلف الرواية وكاتب المسلسل باروتا ولاندولف

أكثر شيء يجعل هذا المسلسل مميّزاً هو ”الرحيل المفاجئ“؛ فذلك الحدث الّذي مسّ العالم أجمع خلق جوًا فريداً من نوعهِ، خلق إحساساً بالضياع لدى جميع البشـرية، إحساساً بغياب خاتمة لآلامهم … وبرسم المسلسل لأحداثهِ بعد ثلاث سنوات من هذا الحدث نجح في خلق أبعادٍ لا حصـر لها لكيفية تعامل الناس معهُ، ليصوّر لنا بمحاكاة للمعاناة البشريّة بطريقة استثنائيّة جدًّا.

إذاً ما هو الرحيل المفاجئ؟

في 14 من اكتوبر 2014، فجأة وبدون أيّ إنذار اختفى 2 % من البشر في ظروف غامضة … اختفوا وحسب، في لحظة كانوا هناك وفجأة لا أثر لهم وكأنّ الأرض انشقت وابتلعتهم عدا أنّها لم تنشق، بل اختفوا أمّام أعين من أمامهم.
أعلم أنّه عندما نقول 2 % من البشرية هكذا ستبدو كعدد قليل، لكن إن دققت جيّداً وقمت بحساباتك على أتم وجه فستجدُ أنّهُ عدد ضخم جداً جدّاً … حوالي 150 مليون شخص … تخيّل أن يختفي 150 مليون شخص دفعة واحدة، تخيّل التأثير الّذي يصاحب ذلك سواءً على المجتمعات أو حتى الأفراد، تخيّل عشوائية الوضع … أن تجد عائلة تتكوّن من 10 أشخاص ولم يختفي أيّ فرد منها بينما تجدُ جاره فقد 4 أشخاص دفعة واحدة، تخيّل أمّاً تضع رضيعها في المقعد الخلفي للسيّارة ثمّ تستدير فلا تجده، تخرج من السيّارة مسرعة للبحث عن المساعدة لترى الناس ضائعين من حولها.

بناءُ الحلقات في المسلسل مهم جدّاً، خاصّة الحلقات الّتي تركّز على الشخصيات حيثٌ يتمّ اتخاذ مسار ثوري، تلك الثورات الّتي تنتهي عادة باكتشاف النفس من جديد أو اكتشاف أنّ كلّ شيء تؤمن بهِ مجرّد وهم. الحلقة الثالثة من الموسم الأول ”قاربان وهليكوبتر“ من أهمّ الحلقات الّتي فعلت ذلك بامتياز تاركة أراءً إجابيةً جدّاً لدى النقّاد.
المسلسل قدّم أداءات فرديّة استثنائية، بداية من جاستن ثيرو الّذي ـ بطريقة أو بأخرى ـ كسر قاعدة Antihero الشائعة مؤخّراً بتقديمهِ شخصيّة متناقضة تتفاعلُ مع الأحداث بشكل غير متوقع تماماً.

لا يمكنُ أن نتحدّث عن التمثيل بدون التكلّم عن الأداء الصامت في الموسم الأوّل من آيمي برينمن، شخصية لوري شخصية بلا كلمات لكنّها تبوح بالكثير، تشاهد الصراع في عينيها وتنقلهُ آيمي بحذافيرهِ. لا أعلم إن كنتُ شاهدتُ أداءً صامتاً بهذهِ الجودة من قبل.

كريستوفر أتكينسون، الرجلُ الّذي جعل حلقة (مات) من كلّ موسم هي أكثر حلقة ينتظرها المتابعين والنقاد، كريس في دور القسيس الّذي يتمسك بإيمانهِ رغم كلّ الجنون الّذي يحدثُ حولهُ ويحارب من أجل إثبات إيمانهِ للناس.
كاري كون، في أداءٍ مميّز جداً نجحت في تغيير الشخصية عن الرواية وإعطائها أبعاداً أخرى، كاري ببساطة جسّدت أهم شخصية في المسلسل حسب رأيي لأنّها المرجع الأوّل لكلّ الألم والمعاناة.
بالإضافة إلى الأداءات الرائعة الأخرى من كريس زيلكا، ليف تايلور ومارغرت كوالي … بدون أن أنسى الأداء المميّز جداً لـ آن داود في شخصية (باتي) وكيفين كارول في شخصية (جون مورفي).

ما يجعل التمثيل مميّزاً في هذا المسلسل هو المجال الكبير الّذي أُعطي لكلّ شخصية وأيضاً الكتابة الذكية ل دايمن الّذي قدّم شخصياتهُ بشكل جيّد وواقعي جداً، هذا المزيج يعطيك ذلك الإحساس بأنّك تشاهد وثائقياً عن أشخاص يمرون بمشاعر مختلطة كثيرة وليس تمثيلاً.

المسلسل غنيّ جدّاً بالإسقاطات والرمزيّة وذلك لذكاء الكتّاب في خلق مواضيع عديدة تتفرّع من الحدث الرئيسي لتسطع وحدها وتأخذ حيّزاً درامياً مميّزاً، زيادة على ذلك نرى تأثيرات الحدث الرئيسي أكثر على دوافع الشخصيات فهناك من يلجأ للدين وهناك من يكفر بالدين وهناك من يلجأ لطائفة معيّنة، لنشاهد الطريق الّذي تتخذهُ كلّ شخصية وتأثيرهُ على مسار القصّة.

ماكس ريشتر

لا يمكننا الحديثُ عن The Leftovers بدون الحديث الموسيقى التصويرية للعمل، ماكس ريشتر قدّم مقطوعة مميّزة تتناسب جدّاً وأجواء المسلسل، خاصّة تلك النوتات الّتي تطعنك في كلّ مرّة تتسلل إلى مشهد ما … لمّا تبدأ الموسيقى في الاندلاع حتّى الوصول للكلايماكس… موسيقى مميّزة لمسلسل مميّز.

The Leftovers من المسلسلات الّتي تبقى معك … تطاردك … وتجعلك تفكّر، مزيج مثالي ما بين الدراما والفانتازيا وسط قالب واقعي جداً.