Rillington Place: أين يكمن الشر؟

أعتقد أن تيري غيليام هو من قال ذات مرة في حوار مع جورج لوكاس حول الشر ”دارث فيدر ليس هو الشر. هو ليس إلا شخصاً خبيثاً. يرتدي الأسود. تلحظه من على بعد ميل. الشر هو مايك بالين في Brazil، صديقك المقرب، والد ثلاثة أطفال، رجل صالح، ويفعل ما فعله.“، وهو محق.

الشر لا يكمن في شخص يرتدي بزة فضائية ويتحدث بصوت روبوتيّ ويستخدم ”القوة“، ولا هو يكمن في شخص يطلق على نفسه إسم ”كيس الشاي“ ويمشي في السجن بجيب مقلوب من سرواله، ولا هو يكمن في شخص يمارس الرماية بالقوس على عاهرات بايليش، وبالتأكيد لا يكمن في شخص يأكل السجق أمام ضحية إخصاء، لأن كل هذه الشخصيات لا توجد حقاً في عالمنا هذا، إنها جد كاريكاتيرية (أي: مبالغ فيها) على أن يكون لها وجود في العالم الحقيقي.

أين يكمن الشر إذاً؟ في جارك الذي يسلفك المال لتسديد فاتورة الكهرباء، في زميل العمل الذي يمتدح جمالك، في شريك حياتك الذي يشتري لك الحلى والشوكولاته. قد تستغرب وتقول مع نفسك: هذه كلها أشياء جيدة، لا أعلم ما الذي تتحدث عنه. وأنت محق، لكن هذه شخصيات حقيقية توجد في هذا العالم، تلتقي بها في الشارع وتركب معها الباص وتشاهد معها مباريات مانشستر يونايتد في المقهى، وأحياناً تحك لها ظهرها في الحمام البلدي. وكأي شخصيات حقيقية، فإنها ليست أحادية البعد، هناك درجات عديدة لشخصيتها، تشعر بنفس الأشياء التي تشعر بها (سعادة، ألم، نشوة… الخ)، وتتشارك معك أحياناً نفس متاعب الحياة (المرض، الطرد من العمل، العجز الجنسي، تعادلات مانشستر يونايتد المتتالية… الخ)، فلذلك قد لا تكرهها على الدوام، بل إنك قد يصل بك الأمر لأن تفهمها وتتفهمها.

وقد أصبحت مهتما جداً ببساطة أو دُنيوية الشر (أو تفاهة الشر، كما تقول حنة أرندت) هذه، فحتى عندما أكون منبهراً بتعقيدات مجرمي Bron/Broen التي تنعكس على مدى تعقيد جرائمهم التي تتطلب 10 حلقات لتحلها البطلة ساغا نورين، هناك شيء مميز أكثر في شرير Happy Valley الذي ليس إلا مُحاسب أصابه الطمع فيما يظن أنه مِلكُه فأغرق نفسه في حفرة أعمق بكثير مما يستطيع أن يتسلق، وهنا تكمل جمالية المسلسل محط حديثي الآن: Rillington Place، أحدث إنتاجات BBC البريطانية.

المسلسل يحكي وقائع حقيقية من حياة المجرم جون كريستي على مدار 20 سنة مابين 1933 و 1953، وعلاقته بزوجته إيثل وجيرانه تيم وبيريل إيفانز. إنه إنتاج رائع ومقتضب — على عادة إنتاجاتهم — من BBC، وقد يخيل للمرء أنه يشاهد فيلماً وليس مسلسلاً على التلفزيون الحكوميّ البريطانيّ. الطاقم الرئيسي، يرأسه مرشحان سابقان للأوسكار: تيم روث و سامانثا مورتون. لا أريد حقاً الدخول في تفاصيل القصة أو الكلام عن الأحداث، وقد أفضل جداً أن تقفل هذه الصفحة ولا تقرأ أي كلمة أخرى وتذهب لتشاهده على الفور، على أمل أن تعود لاستكمالها لاحقاً، لأنني لا أريد الحديث عن الأحداث، لكنني سأفعل على الأرجح.

أعتقد المديح الأكبر في هذا العمل يمنح لتيم روث، الذي تقمص بشكل مذهل شخصية رجل مضطرب جداً، لكن سامنثاً أيضاً قامت بدور رائع، وهي من تلك الممثلات التي تستطيع أن تقول الكثير من الأشياء بعينيها فقط، أو لغة جسدها، أو تلك الأشياء البسيطة التي لا تبرز للمشاهد إلا عندما يدقق فيها حقاً. بقية الطاقم كانوا لا بأس بهم وأدّوا ما عليهم، ويجوز أن إنطباعي هذا يعود فقط لكون تيم روث يمتص الجاذبية من كل مشهد يظهر فيه.

من ناحية الكتابة ظننت أن الكتاب فعلوا حسناً فيما يخص رتم سير المسلسل والحوارات، واكتشفت بعد قيامي بجولة في ويكيبيديا أنهم قاموا بإدخال الكثير من الأشياء التي ما كان من الممكن إظهارها في المسلسل (أو بالأحرى، من الأفضل عدم إدخالها في المسلسل للحصول على أفضل النتائج) عبر الإشارة لها من خلال الحوارات، مثل أن يطلب تيم من جون كريستي قراءة ورقة لأنه لا يعرف القراءة أو الإشارة إلى ماضي كريستي، ولو أنني أعترف أن بعض هذه الإشارات لم تكن كافية لوحدها لكنها أدت الغرض في المسلسل. سبب عدم إظهارها في المسلسل هو أن الوقت الذي ستشغره في الحلقات لا يبرر الإضافة (الصغيرة جداً) التي قد تضيفها للمسلسل أو شخصياته. وأظن أن الكتاب وجدوا نفسهم في معضلة مماثلة في الحلقة الثالثة عندما قاموا بتخصيص أقل من ربع ساعة لجرائم كريستي الأخرى بدل تخصيص حلقة مثلاً لكل واحدة وإعطاء كل أولئك الأشخاص عمقاً وجعلنا نتعاطف معهم، كما أنهم لم يظهروا بشكل سافر مدى انحراف كريستي الجنسي، على عكس الكتابة الأمريكية لقصص مماثلة والتي تلجأ دوماً لإظهار مشاهد الاعتداء بشكل فاضح للغاية.

المسلسل تمتد أحداثه على مدار 20 سنة، فلذلك من الطبيعيّ أن المسلسل اتخذ القفز بين السنوات منهجاً لسرد القصة، وكان هذا أمراً مثالياً للغاية باستثناء الثلث الأخير من القصة حيث كان الكتاب مضطرين لسرد القصة كاملة إلى نهايتها. إذ أتخيل أن المسلسل لو انتهى مباشرة بعد انتهاء المحاكمة لكانت نهاية درامية مثالية، وكان ليكتفي المسلسل بسرد بقية القصة على شكل حائط من الكلمات يظهر ويختفي قبل شارة النهاية، لكن لا توجد نبالة في أخذ الطريق السهل، والكاتب الجيد هو من يريك لا من يخبرك ”Show, don’t tell“. طبعاً هذا كان يعني أنهم اضطروا لتغطية بعض السنوات التي لم يكن فيها أحداث بارزة وجعلت رتم المسلسل ينخفض بحدَّة، لكن هذا ليس انتقاداً بقدر ما هو ملاحظة.

يمكن الحديث مطولاً عن الأحداث المذكورة في المسلسل وكيف يعقل لها أن تحدث، ما مسبباتها وما تفسيراتها، وربما حتى الحديث عن تلك الأشياء التي خبأها المسلسل عنا أو لم يسمح لهم الوقت بعرضها، لكن هذه أشياء قد تجدونها على صفحات ويكيبيديا ولا يوجد داعي للدخول فيها الآن. ما أردت الحديث عنه حقاً في هذه المقالة بدلاً عن كل ذلك هو ماهية الشر وكيف يتم تشخيصه على التلفزيون (وحتى في السينما).

من المؤكد أنك تعرفت على ”الأشخاص“ الذين ذكرتهم في بداية هذا المقال، وهم على الأرجح أول الشخصيات التي تتبادر لذهن العديد من المشاهدين عندما تسألهم أن يذكروا أكثر خمسة شخصيات شراً رأوها في الأفلام أو المسلسلسلات: دارث فيدر، تي-باغ، جوفري براثيون، رامسي بولتون. لكن هل هؤلاء أشرار حقاً؟ نعم، هم أشرار بمفهوم أنهم الشخص الذي يُكن عداوة لبطل القصة، لكن هل هم أشرار بمفهوم الشر المطلق؟ لا أعتقد ذلك.

طبعاً هناك قبح واضح في تصرفات هذه الشخصيات، ان تعذب امرأة بقوس نشاب أو أن تخصي رجلا أو أن تعدم رجلاً بريئاً… هذه كلها أفعال قبيحة وشنيعة، لكن هل تعرفون ما هو أشنع؟ سأعطيكم مثال. لنأخذ المدعو مارتن شكريلي، ذلك السافل الذي قام بشراء حقوق دواء للسرطان والإيدز ورفع ثمنه لدرجة يصعب فيها على المرضى ان يتحملوا ثمنه. هل ستقول لي حقاً أنك تكره جوفري أكثر من هذا السافل؟

عموماً، هذه ثيمة واحدة من بين عدة أشياء مميزة وجدتها في Rillington Place، إنه مسلسل قصير مميز ويستحق وقتك.

التقييم النهائيّ

رأي شخصي: شاهده لأجل أداء تيم روث.
8 / 10 لماذا فعل كريستي كل ذلك؟ غريزة؟ حب في الشهرة؟ الملل في غياب المواد الاباحية؟ لا أحد يعلم حقاً. لكن إذا شاهدت Rillington Place قد تصبح لديك فرضيتك الخاصة حول ذلك, وهذا أقصى ما قد تصل إليه.