ربما لستم معتادين أن أكتب عن المسلسلات الآوروبية فهي غالباً ما يتم الكتابة عنها هنا من قبل رضوان وهذا صحيح، الرجل يشاهد مسلسلات ”غير ناطقة باللغة الانجليزية“ أكثر مني بل أكثر مننا جميعاً في الموقع وهذا الأمر نتاج طبيعي عندما تشاهد عديد المسلسلات الناطقة بالانجليزية وتبدأ القصص والشخصيات تبدو ”مكررة“ بالنسبة لك ستبحث عن الجديد وهذا ما حدث منذ بضعة سنوات عندما بزغ فجر The Killing وتم عمل نسخة أمريكية منه، التفت شخصياً للتلفاز الدنماركي باحثاً وراء أصل المسلسل وهناك اكتشفت مسلسلاً يُدعى Borgen كان للتو قد بدأ عرضه في 2011 ومنذ ذلك الوقت بقيت متابعاً لأخبار واجواء هذا المسلسل واستمراريته، الدراما السياسية تجذبني للغاية أو بالآحرى السياسة بشكل عام تجذبني سواء كوميديا او دراما، أراها مكان قابل لسرد العديد من القصص لذلك عادةً ما اتابع مسلسلات سياسية كثيرة وهذا المسلسل كان سيقدمني لعالم سياسي مختلف للغاية في بلد آوروبي هو الدنمارك لذا الفكرة بحد ذاتها كانت مثيرة للاهتمام ومرت الأيام واشتهر المسلسل أكثر وذهب إلى بريطانيا وفاز ببضعة جوائز مع كل ذلك كنت دائماً أؤجل مشاهدته حتى جاء اليوم الذي شاهدته فيه ولنقل فقط أنني لم يتم تخييب آمالي على الاطلاق، هذا المسلسل باختصار أحد أفضل الأعمال الدرامية الآوروبية التي عُرضت في السنوات الماضية وأحد أفضل الأعمال الدرامية التي ناقشت السياسة في جميع أنحاء العالم وسأحاول التحدث بالتفصيل عن أشياء كثيرة أثارت اعجابي في هذا المسلسل تباعاً ولكن بدايةً دعوني ابدأ بتقديمه.
المعنى الحرفي للكلمة هو ”القلعة“ وهو الاسم الغير رسمي لقصر كريستيانسبورج مقر الحكومة الدنماركية حيث يتواجد فيه مكتب رئيس الوزراء والبرلمان بالاضافة إلى المحكمة العليا وهناك تدور الأحداث حيث نتعرف على بريجيت نيبورغ زعيمة أحد أحزاب الوسط التي لا تحظى بشعبية كبيرة للغاية، بريجيت تتسم ببعض المثالية والحنكة السياسية شخصية ناجحة على عديد المستويات السياسية والشخصية أم لطفلين وزوجة جيدة ولكن يبدو أنَّ حياتها ستتغير، فبداية المسلسل تبدأ مع الانتخابات قبل بضعة أيام من ذهاب الشعب الدنماركي للتصويت، التصويت الذي سيغير الكثير من مفاهيم وصياغة الدولة الدنماركية الحديثة خاصةً عندما تقوم بريجيت بالقاء ذلك الخطاب المميز الذي يحول الأمور بطريقة جنونية جداً في الانتخابات وتبدأ السياسة الدنماركية فصل جديد لم تشهده من قبل.
من الأمور التي أعجبتني للغاية في المسلسل هو مرور أحداثه على فترات متعددة من السياسة بين الصعود والهبوط، الانتخابات وما قبلها وما بعدها، ادارة الدولة ومعناتها وعلى مدى المواسم والـ30 حلقة استطاع المسلسل التركيز على عدد كبير للغاية من الأحداث والفترات في الحياة السياسية العامة من تشكيل الاحزاب إلى القيام بالتكتلات والتجمعات السياسية لتمرير القرارات إلى التنازلات، حياة السياسي التي تختلف شيئاً فشيئاً من شخص قد يتصدر الصحف يوماً ما إلى شخص إلى شخص لا أهمية له بعد ذلك، من شخص يُشارك بصنع القرار إلى شخص متروك في الظلال لا احد يستمع له هذا الأمر جعل المسلسل يقدم قصة متكاملة الأطراف طوال المواسم بحيث كان دائماً لديه جديد يقدمه لم يكن هنالك تكرار لم يعد المسلسل لمعاناة معينة وكرر تناول قصة معينة لم يكرر مصيبة معينة لكي يتعامل معها الشخصيات بنفس الطريقة دائماً كان هنالك جديد يحدث ودائماً كان هنالك أحداث مختلفة، تحولات تاريخية، اختلافات جذرية، علاقات متغيرة للغاية وهذا ما جعل هذا المسلسل يكتسب سمعة عالمية بأنّه مسلسل درامي ممتاز.
في هذا المسلسل نتعرف على 3 مصنفات رئيسية للعمل السياسي تقريباً كل المسلسلات السياسية تناولت هذه الجوانب فهذه هي العلاقات الثلاثة الأهم في السياسة، لدينا الحكومة والعمل السياسي ولدينا العائلة والعلاقات البشرية ولدينا في النهاية الصحافة سأبدا مع السياسة.
نتعرف في المسلسل على رئاسة الوزراء والبرلمان والأحزاب وكيفية ادارة الأمور وهذا الأمر جعلني أعيش تجربة مختلفة للغاية قربتني من معرفة طريقة صناعة القرار، الأمور لا تسير دائماً باتجاه الحكومة او المعارضة او الحزب الفائز، قد تكون لديك اغلبية مع الناخبين مع ذلك لن تستطيع تشكيل حكومة لوحدك لأنك تحتاج اغلبية برلمانية وحتى يكون لديك اغلبية برلمانية عليك التعاون مع احزاب آخرى احزاب مختلفة بتوجهات وأيدولوجيات مختلفة بين اليمين واليسار المتوسط والمتطرف كل منهم يريد تمرير افكاره ويريد ان يحصل على النجاح وأن يخدم ناخبيه ويخدم نفسه وحياته السياسية، هذا الأمر قد يجعلك عرضةً للعديد من التنازلات والنقاشات حتى لو كنت الشخص الأول بالدولة لن تستطيع تمرير القوانين كما تريد لن تكون بعيداً عن مرمى الصحف وبقية الاحزاب، دائماً هنالك من يتربص بك ويحاول التخلص منك والتغلب عليك، أي غلطة قد تُسبب مشكلة بالنسبة لك أي زلة لسان أي ماضي معين أي تصرف لشخص قريب منك قد يجعلك عرضةً للهجوم والانتقاد وبالتالي ستكون ضعيف وستحتاج أن تقوم بعملك السياسي بشكل جيد، المثالية لا مكان لها في العالم السياسي، أحياناً قد تضطر للتخلي عن اصدقائك من أجل المصلحة العامة، قد تضطر لفعل اشياء لم تكن تتخيل أنك ستفعلها، الحياة السياسية ليست بالسهولة ولا هي بالأسود أو الأبيض دائماً، السياسة دائماً تعيش على درجات الرمادي بين اللونين وهذا الأمر قدمه المسلسل بواقعية فائقة تستحق كل احترام.
أحد الأشياء المهمة التي قدمها المسلسل هي العلاقات البشرية والعائلة، في النهاية هؤلاء السياسيين والاعلاميين بشر والترابط بين هؤلاء الشخصيات شيء تم صياغته بشكل جيد للغاية، بين معاناة امتلاك حياة سياسية ومشاكل عائلية وبين محاولات لتفادي الماضي السيء والمضي قدماً بعلاقات بشرية جديدة نرى شخصيات هذا المسلسل تسلك خطوطها في العلاقات بشكل واقعي ومميز، كتاب المسلسل استطاعوا خلق دراما متتابعة في احداث الشخصيات والعلاقات جعلتنا نشعر بترابط وثيق مع الشخصيات، نكره ونحب ونتفاعل، نسعد لنجاح احدهم ونحزن لفشل علاقة احدهم، نتعاطف مع ماضي ذاك ونلوم تلك على افعالها، طاقم كتاب المسلسل استطاعوا تقريب المشاهد من الشخصيات وجعلها شخصيات يستطيع المشاهد التواصل معها والشعور بها وليس مجرد أشخاص سياسيين همهم السياسة وحسب في النهاية هم بشر لديهم مشاكلهم الخاصة وعوائلهم الخاصة وتلك العوائل قد تكون مليئة بالمشاكل وربما السياسة والمراكز السياسية تزيد من تلك المشاكل.
من الامور الممتازة في المسلسل هو طريقة تقديمه للاعلام، المسلسل قدم السلطة الرابعة بشكل موضوعي، اناس تبحث عن السبق الصحفي والنجاح العملي، لديهم افكارهم الخاصة واجنداتهم الخاصة، يبرعون كما السياسيين باستخدام الكلمات الكبيرة من حريات وديمقراطية وحقوق الشعوب ولكن الأمور ليست بتلك السهولة أبداً هم في النهاية يريدون أن يخلقوا محتوى يستطيع القارئ أو المشاهد الترابط معه، البحث عن القصص في اقصى الاماكن، الرغبة بالانتقام من شخصيات معينة، لكل منهم دوافعه وفي النهاية الأمور ليست بتلك البساطة التي تبدو عليها.
من الأشياء التي ربطت الصحافة بالسياسة هي النظرة لداخل شخصيات ”المستشارين الاعلاميين“ اولئك الاشخاص الذين يستطيعون أن يرفعوا أشخاص نحو السماء وقد يخفقون ويجعلوهم تحت الارض، المستشار الاعلامي لمكتب حكومي او لحزب معين هو احد اكثر الاشخاص المتنفذين في الدولة واكثر الاشخاص الذين يستطيعون سرد القصص وتقديم المعلومات والبحث عن قذارات الخصوم ونشرها وبنفس الوقت يستطيع حماية حزبه او وزيره من الهجمات الاعلامية وفي هذا المسلسل بالذات استطاع الكتاب تقديمنا لهذه الوظيفة بشكل أعتبره عبقري للغاية مع شخصية ”كاسبر“ بالذات شخصية معقدة ذات ماضي معقد مع ذلك يجيد عمله بشكل ممتاز قد يُخطأ وقد يُصيب، في النهاية هذا عمله كمستشار اعلامي، لديه علاقات بكافة الصحف وبانواع البشر لكن هذا لا يمنع أن تكون حياته الشخصية معقدة للغاية هذا التعقيد في الشخصية وترابط ماضيه مع حاضره استطاع أن يربط لنا المحاور الثلاثة في المسلسل السياسة والصحافة والعلاقات الشخصية وفعل ذلك بامتياز.
ربما كان لديَّ بعض المشاكل مع المسلسل بصفته قدم بعض وجهات النظر المثالية بالرغم من أنني أرى أنَّ علينا أن نتفهم تماماً أنَّ تراكيب الشعوب تختلف تماماً من مكان لآخر وربما عالمنا السياسي الواقعي يُبرز هذا الشيء بين الفينة والآخرى، ففي وقت في دول عديدة سنجد أحزاب متعددة وسياسيين متعددين لا يؤمنون سوى بالكذب والخداع والمصلحة هنالك بعض الاحزاب وبعض السياسيين يريدون حقاً العمل من أجل مستقبل أفضل لهم ولبلادهم قد يتسمون ببعض المثالية أحياناً هذا طبيعي ونعم العالم الواقعي صعب ولكن الدرجات بين المثالية والواقعية هي ما تجعل الاقتصاد يتطور والبلاد تستمر بلد مثل الدنمارك تعداد سكانها لا يتعدى الـ6 ملايين ربما مع ذلك هي احد الدول المهمة في النظام العالمي الاقتصادي وفي الأزمات السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية العالمية دائماً ستجد للدنمارك تواجد دولة من ضمن أفضل الدول على عديد المستويات بالتأكيد كل ذلك لم يأتي فقط من النفاق والخداع بالتأكيد هنالك من عمل من أجل أن تُطبق تلك الخطط والأفكار التي قد تبدو ”مثالية“ وغير ”واقعية“ لكن حتى لو لم يتم الوصول للفكرة النهائية فمجرد المحاولة والوصول لأشياء بين المثالية والواقعية هو شيء جيد جداً، ثم كان هنالك دائماً التقديم الاساسي للشخصيات منذ البداية نحن نعرف توجهات الشخصيات السياسية حتى لو لم نكن مقتنعين بها لا نستطيع أن نتجاهل تواجد احزاب الوسط وسياسيين التنمية والنظرات المستقبلية والمحاولات المثالية هم موجودين ودائماً يحاولون صناعة الفرق والمسلسل أخذ على عاتقه أن يُقدمهم بشكل جيد ويقدم معاناتهم ومحاولاتهم الدائمة للمضي قدماً في البلاد والعالم، ربما الموسم الثالث كان ”مثالي بشكل مبالغ“ على الأقل برأيي الشخصي، في النهاية المسلسل أراد أن يُقدم رسالة معينة وليس فقط دراما وأستطيع تماماً تفهم أسباب تلك التوجهات المثالية في الموسم الثالث من أجل نظرة تفائلية للعالم السياسي المستقبلي في الدنمارك.
لطالما كان تواجد النساء في السياسة ومحاولات جعلهم ينخرطون في العمل السياسي واعطائهم مقاعد في البرلمان بداية من مبادئ الكوتا النسائية حتى وصول دول في آوروبا وفي أماكن آخرى لأن تقود البلاد امرأة، في هذا المسلسل يتم تقديم لنا بريجيت بشكل ممتاز حيث استطاعت الممثلة المميزة للغاية Sidse Babett Knudsen أن تقدم لنا الدور ببراعة كبيرة بين حياتها الشخصية وتفاعلها مع الاحداث السياسية، ضعفها في بعض المواقف، عصبيتها محاولاتها التمسك بمبادئها والتنازل عن مبادئ آخرى، كسب اصدقاء جدد اضطرار التخلي عن بعض الاصدقاء كل هذا واكثر استطاعت الممثلة التي شاهدتم صورها في هذا المقال كثيراً أن تُقدم الشخصية بامتياز كبير جداً بين تلك الابتسامة التي غالباً ما يجب أن تكون مرسومة على وجه السياسي امام الاعلام إلى لحظات الضعف والحاجة للعائلة، الاناث والسياسة والعائلة محاور مترابطة قدمها المسلسل بامتياز ولكنه لم يكتفي بذلك فقط فقد قدم الوجه النسائي للصحافة بشكل ممتاز وقدم معالجة درامية ممتازة للنساء في الصحافة والاعلام وخلق احداث تمكن الممثلين من التفاعل معها بشكل كبير جاعلاً تمثيل Sidse Babett Knudsen لدور بريجيت احد الادوار التي لن أنساها.
في النهاية إن كنت تبحث عن مسلسل سياسي، درامي مميز بوجهة نظر مختلفة بعيدة عن الخراب الذي يخلقه فرانك اندروود في House of Cards وبعيداً عن التباهي الكبير والصحافة الحقيقية التي حاول تقديمها آرون سوركين في The Newsroom، أنصحك أن تُلقي نظرة على هذا المسلسل، المسلسل يُوصف بأنه The West Wing الدنماركي ولكن شخصياً أرى أنَّ المسلسل قدم نفسه بشكل ممتاز كمسلسل مختلف ومميز مكتوب باحترافية عالية ومُمثل باحترافية عالية واستطاع أن يُبهرني شخصياً ويقدم لي المجتمع الدنماركي السياسي والبشري بشكل ممتاز وأستطيع بكل سهولة أن أضع هذا المسلسل كأحد أفضل المسلسلات الآوروبية التي شاهدتها على الاطلاق ومع كل هذا أنا سعيد جداً لأنَّ المسلسل من الصعب أن يتم نسخه للتلفاز الأمريكي للاختلاف الكبير جداً في نظام الانتخابات والسياسة، من الجيد أن نرى أنَّ مسلسل ناجح في العالم لا يتم تخريبه بنسخة أمريكية غبية.
التقييم النهائيّ
الكتابة: | قدم لنا كتاب هذا المسلسل، شخصيات وأحداث وأفكار ممتازة استطعنا التفاعل معها وتكوين مشاعر متعددة تجاهها وهذا دليل على مدى جودة الكتابة. | |
التمثيل: | ربما تمثيل البطلة لوحدها يكفي لاعطاء هذا الممثلين علامة كاملة في هذا المسلسل، شخصيات معقدة واحداث متناقضة ودائماً كان هنالك طاقم كبير ليقدم لنا تلك الأحداث. | |
الإخراج: | بين المشاهد الداخلية والمشاهد الخارجية بين استوديو التلفاز وغرفة رئيس الوزراء، الاخراج يدعوك للدخول بكل سلاسة لعالم السياسة الدنماركي. | |
رأي شخصي: | فكرة مختلفة وجديدة مكتوبة باحترافية ومُمثلة باحترافية كبيرة بالاضافة إلى أنَّه ليس أمريكي، أمور تجعلني أعجب للغاية بهذا المسلسل. | |
8.75 / 10 | أحد أفضل الأعمال الآوروبية السياسية التي لا يجب أن تفوت إن كنت من المعجبين بالدراما السياسية، وجبة متكاملة للغاية |