بعد تحرير كل معتقلي معسكرات الاعتقال النازية, الخطة النازية للقضاء على ”المشكل اليهوديّ“ بشكل نهائيّ وصلت إلى نهايتها, لكنها لم تكن النهاية. فرغم موت ما يقارب 6 ملايين من اليهود, وجد الناجون من هذه الكوارث أنهم لم يعودوا مرحباً بهم في ديارهم والبعض الاخر وجد أن منازلهم تم احتلالها بواسطة أناس أخرين. فلم يكن من الغريب ان يصبح هناك فجاة رغبة جماعية لبلوغ أرضهم الموعودة في فلسطين. كثير من اليهود كانوا ينشدون الإستقرار بفلسطين على مر القرون بعد ما شهدوه من اضطهاد و عنف في أوروبا و أسيا, الأمر الذي أدى إلى مُظاهرات و احتجاجات و مقاومة من طرف المواطنين الفلسطينيين العرب.
الحكومة البريطانية حاولت لوقت طويل الموازنة مابين رغبة اليهود في أرض خاصة بهم و حق العرب في فلسطين, لكنهم سرعان ما استسلموا. عام 1922, كان نسبة اليهود في فلسطين حواليّ 11 بالمئة, قفزت هذه النسبة إلى 33 بالمئة بعد الحرب العالمية الثانية. خطة البريطانيين بعد انتهاء الحرب كانت تقليل الزحف اليهوديّ نحو فلسطين سواء عبر ردّهم في اعقابهم أو اعتقالهم في معسكرات اعتقال, الأمر الذي أدى إلى قيام الإرغون (منظمة شبه عسكرية) بهجمات إرهابية ضد قوات الاحتلال البريطانية. هذه الهجمات أدت في نهاية المطاف — بجانب عدة أسباب أخرى — إلى إنسحاب القوات البريطانية و نشأة دولة الكيان الصهيونيّ عام 1948.
بعد درس التاريخ الممل هذا لنتحدث عن The Promise, رائعة Peter Kosminksy ذات الأجزاء الأربعة (كل جزء حوالي ساعة ونصف) التي عرضت على القناة البريطانية الرابعة.
القصة
المسلسل يتطرق إلى بعض أحداث و مشاكل تلك الفترة التي التي أدت إلى نشأة الكيان الصهيونيّ مع نظرة حديثة إلى الكيان الصهيونيّ, عام 2005. بطلة المسلسل (إرين) فتاة لندنية في الـ18 من عمرها ترافق والدتها إلى مستشفى لزيارة جدها المريض (لِن), شخص لم تره سوى مرتين في حياتها و لم تقبل بزيارته إلا على مضض. عندما تجرّها والدتها إلى منزله لتنظيفه تحضيراً لموته, تجد (إرين) دفتر مذكرات قديم, فيثور فضولها فجأة, خصوصاً عندما تمنعها عنها والدتها بعد أن رأتها بين يديها.
كأي مراهق أخر رافض لأوامر والديه, تقوم (إرين) بسرقة أو تهريب المذكرات لتكتشف أنها تدور حول خدمة (لِن) العسكرية في كتيبة المظليين, بداية بتحرير معسكر ”بيرغر-بيلسن“ ثم تعيينه في فلسطين كجزء من قوات حفظ الأمن البريطانية. يصادف هذا الإكتشاف كون صديقتها (إليزا) ذات الجنسية المزدوجة على وشك التوجه إلى الكيان الصيهونيّ لبدء خدمتها العسكرية, فتوافق على مرافقتها لبضعة أشهر إلى حين تخرج (إليزا) من تدريبها الأوليّ. يرحب والدا (إليزا) بـ(إرين) في منزلهما الفخم, لكن بالنظر إلى كون (إليزا) في خدمتها العسكرية طوال الوقت, تجد (إرين) بين يديها الكثير من الوقت الفارغ, الذي تملأه بشكل أساسيّ بقراءة مذكرات جدها.
تبدأ (إرين) بالتعمق أكثر فأكثر في مذكرات (لِن) الشخصية, مكتشفة حقائق مقلقة حول الوقت الذي قضاه في فلسطين والفظائع التي شهدها خلال الوقت الذي سبق نشأة الكيان الصهيونيّ. يزيد إدراك (إرين) لتعقيدات الحياة للفلسطينيين و اليهود على حد سواء كلما تعمقت أكثر في مذكرات جدها, فينتهي بها المطاف في رحلة إلى إتمام وعد قطعه جدها وعجز عن الإيفاء به.
الرأي
أحتفظ بهذا المسلسل منذ اكثر من ثلاثة سنوات, وشائت الصدف ان اشاهده الآن, ويجب أن أعترف ان الوقت كان مناسباً للغاية لمسلسل كهذا. مهما يحدث في العالم من كوارث و ثورات, فإننا نعود دوماً إلى القضية الفلسطينية, وكان الأمر هكذا منذ ما يقارب القرن, حرب هنا و حرب هناك, كارثة طبيعية هناك, ثورة هنا و ثورة هناك, ثم تقرع الحرب طبولها مجدداً في أرض المسجد الأقصى.
ربما مسلسل كهذا هو ما يحتاجه هذا الجيل ليتعلم أكثر فأكثر عن القضية الفلسطينية, بالنظر إلى أراء بعض الحمقى على الشبكات الاجتماعية. إن The Promsie يسمح لنا برؤية قطعة الأرض تلك التي يتنازع عليها اليهود و العرب منذ حوالي القرن من وجهة نظر محايدة, لنرى شكاوي الاسرائيليين و تضرعات الفلسطينيين. إن Kosminsky حاول بالفعل ان يكون حيادياً قدر الإمكان, لكن الأمر يعود لك انت وما إذا كنت محايداً بما فيه الكفاية لترى القصة من جانبيها فهذا يعود لك و لضميرك. أما من سينتقد المسلسل لكونه غير دقيق تاريخياً, فإن القصتين (قصة الجندي و قصة حفيدته) يٌقصد بهما رؤية القصة من وجهة نظرهما, ولا شيء غير ذلك. هذا المسلسل ليس استثناءاً للقاعدة الحياتية المعروفة, هناك 3 أوجه لكل قصة: قصتي, قصتك, و الحقيقة, حيث هذه الأخيرة تكون مزيجاً بين الأولى و الثانية, مرة بشكل متوازن و مرة اخرى بشكل غير متوازن.
التمثيل ممتاز, خصوصاً في محور الأربعينات, الذي كان ليكون محوراً ممتازا لوحده بدون المحور الاخر (محور 2005), هذا المحور يتناول قصة الرقيب (لِن) الذي يجد نفسه وسط هذه المعمعة كلها بينما يحاول إيجاد التوازن بين كل أطراف هذا الصراع. في البداية, الرقيب متعاطف جداً مع اليهود بعد ما رأه في معسكر بيرغن بيلسن, لكنه يبدأ للميل للقضية الفلسطينية بعد أن بدء الإرغون مذبحتهم الوحشية و الإرهابية ضد عرب فلسطين و الجيش البريطانيّ على حد سواء. علاقته بـ(كلارا) اليهودية تؤدي إلى شكوك حول كونه مُخبراً للإرغون بخطط الجيش البريطانيّ, بالرغم من علاقته الطيبة ببائع الشاي (أبو حسن) و إبنه.
في محور 2005, (إرين) كأي مراهقة أخرى, غِرّة, مدللة, و سريعة إلى إطلاق الأحكام. هذه الشخصية مزعجة, لكنني أدركت ان هذا مقصود من طرف مخرج العمل كمحاكاة دقيقة لحال العديد من الجاهلين بالقضية و الذين لديهم وجهة نظر أحادية لهذه المنطقة و تاريخها. إن (إرين) جاهلة بكل شيء قبل صعودها على متن الطائرة وقراءتها لمذكرات جدها لم تمنعها من القيام بأحكام شخصية و إبداء أراء بدون فهم للثقافة التي تعيش فيها حالياً وتزيد الطين بلة ببعض تصرفاتها. إن محور (إرين) جعلني في غالب الوقت أشعر برغبة في صفعها, لكنني أظن ان هذا مقصود من المخرج. هناك محور أخر مثير للاهتمام في هذه القصة, وهو محور الفاتنة (إليزا) صديقة (إرين), و التغيّرات التي تطرأ عليها سواء جراء خدمتها العسكرية أو تصرفات (إرين).
محور الأربعينات يركز حول رغبة اليهود بإنشاء دولتهم الخاصة و الطرق الإرهابية التي يسلكونها لتحقيق ذلك, مصرين أن اليهود لن يتعرضوا أبداً مجدداً لأي نوع من الإضطهاد, بينما يحاول البريطانيون حفظ السلام بين الطرفين, وفي نفس الوقت يتم نعتهم — بشكل مثير للسخرية — بالنازيين. محور 2005 يظهر لنا الكيان الصهيونيّ وهو يتعرض لهجمات مشابهة لتلك التي قام بها في الأربعينات, لكن هذه المرة الهجمات مصدرها المقاومة الفلسطينية, الذين يريدون بدورهم إستعادة فلسطينهم. ولا يخجل المسلسل عن إظهار الجيش الصهيونيّ على حقيقته كقوة هدفها حماية اليهود وتطفيش الفلسطينيين بكل الوسائل الممكنة لإرغامهم على الرحيل من تلقاء أنفسهم, بكل الوسائل الممكنة.
من المحق و من المخطئ؟ كلا الطرفين محقان و مخطئان في كلتا الحالتين. كيف وصلا إلى هذه الحالة التي هم عليها هي مسألة حقائق تاريخية لا يمكن تغييرها, يستبعد جداً هزيمة الصهاينة بالنظر إلى قوتهم العسكرية و الدعم الذي يحظون به وكذا إلى تاريخ الحروب التي شهدتها المنطقة طوال العقود السابقة, كما أظهرت لنا نفس هذه الحروب و نفس هذه العقود أن العزيمة الفلسطينية لن تندمل أبداً, هاهو شعب ينجب أبطالاً شجعاناً من بطون أمهاتهم. المسألة تبقى كالتالي: هل سيصل الطرفان إلى حل وسط يتعايش فيه كل واحد منهم مع الأخر و يستحمل ازعاجه؟ لا نعلم, وليس هذا حقاً المكان الذي تطرح في هذه الأسئلة و تناقش, وإنما هي وجهة نظر العبد لله.
كل ما نأمله هو أن هذا المسلسل, وغيره, سيساعد الكثير (الكثير الكثير الكثير) من عربنا الجاهلين كـ(إرين) أن يتعلمو ما لم تستطع أدمغتهم الضئيلة عن إستيعابه في المدرسة عن تاريخ القضية الفلسطينية, بالرغم من عجزهم الأكيد عن إيجاد حلّ او المساهمة في إيجاد واحد..
ختاماً, أنهي هذه المقالة بذكر إقتباس مذهل من المسلسل, حيث يقول (أبو حسن) بسذاجة العرب المعتادة ”ستأتي جيوش العرب لإنقاذنا“ فيرد عليه (لِن) قائلاً ”لن يأتي أحد“… 🙁
لك الله يا فلسطين!
التقييم النهائيّ
الكتابة: | إن محور الأربعينات يستحق العلامة الكاملة, لكن لا يمكن قول المثل عن محور 2005. | |
التمثيل: | التمثيل كان بالفعل من طراز عالي | |
الإخراج: | التنقل بين المحورين كان مثاليّ و يستحق المخرج عليه كل المديح | |
رأي شخصي: | من المعيب ان هذا المسلسل لم يحصل على جوائز كثيرة | |
8.25 / 10 | من المدهش رؤية مسلسل بهذه الجرأة يعرض على قناة أجنبية. يمكن القول, بكل ثقة, أن السيد Peter Kosminksy نجح في تصوير الصراع الدائر في فلسطين بكل حيادية, إن The Promise هو أفضل مسلسل تكلم عن القضية الفلسطينية منذ... "الموت القادم من الشرق" 😀 |