عندما يتعلق الأمر بالسمعة في مجال إنتاجات المسلسلات الأصلية، تتحلى قناة HBO الكبلية الأمريكية بسمعة نقية جداً، وحتى الأشخاص الذين لا يداومون على مشاهدة مسلسلاتها تجدهم يمدحون جودة أعمالها، ولم لا؟ هذه هي القناة التي قدمت للعالم روائع مثل The Sopranos و The Wire و Six Feet Under، مسلسلات تعتبر لدى الكثيرين أفضل ما خرجت به صناعة المسلسلات على مدار التاريخ، لكنها أيضاً القناة التي قدمت للعالم مسلسلات مثل John from Cincinnati و K Street و 4 مسلسلات مختلفة من شخص غير مضحك يدعى Chris Lilley. هذا ليس الهدف منه قول أن HBO قناة سيئة، على العكس تماماً، إذ رغم كل التغييرات التي عرفها التلفزيون من دخول وخروج قنوات ومنصات كثيرة، لا تزال القناة متربعة على العرش ولم يصل أحد بعد لما يوازي نجاحها، لكن بين كل قصص النجاح تلك توجد قصص فشل كثيرة، وإحدى هذه القصص هي الإلغاء الغريب لواحد أشهر وافضل المسلسلات في وقته: Deadwood.
لنعطي سياقاً أفضل لهذه القصة، يجب أن نتحدث عن الوقت. السنة هي 2006، Six Feet Under كان قد أذاع حلقته الاخيرة قبل سنة، لكن HBO لا تزال تملك إثنين من أفضل مسلسلاتها The Wire و The Sopranos على الهواء، الأول توقف لمدة سنة مابين موسمه الثالث والرابع وعانى من معدلات مشاهدة ضعيفة جداً (ديفيد سايمون وقتها قال أن السبب هو أن مسلسله ينافس Desperate Housewives رغم أن الإثنين كانا يعرضان في يومين مختلفين) والثاني كان على وشك توديع الشاشة نهائياً بموسمه الأخير المقسوم إلى نصفين، فلذلك HBO كانت تبحث عن نجاحها الكبير القادم واستثمرت الكثير من الأموال في Rome (حوالي 100 مليون لإنتاج الموسم الأول، رقم مهول إلى يومنا هذا ولا يقترب منه سوى Game of Thrones) لكنه قدم أرقام متواضعة جداً بالنظر للاستثمار الكبير فيه. من جهة أخرى، Deadwood كان قد دخل موسمه الثالث، وكان أيضاً مسلسلاً مكلفاً بدوره ومعدلات مشاهدته كانت تقدر بحوالي 2.5 مليون للحلقة.
نعرف جميعاً أن HBO قناة كيبل خاصة وليست ممولة بالاعلانات فلذلك معدلات المشاهدة ليست بنفس الأهمية التي هي عليها لدى قنوات الشبكات، لكن عندما تصنع أغلى مسلسل في تاريخ المسلسلات ويشاهده نفس عدد مشاهدي Deadwood فهذا يعتبر خسارة فادحة، وهذا الأخير دفع الثمن غالياً في هذه الخسارة، إذ أن HBO وجدت نفسها مجبرة لإلغاء مسلسل الويسترن المكلف لكي تستطيع تمويل موسم ثانٍ من Rome بهدف بيعه عالمياً على أوسع نطاق لتسترد القناة ما صرفته على المسلسل في 22 حلقة.
هذه هي القصة القصيرة والمختصرة لإلغاء Deadwood، لكن لماذا كان مسلسل ويسترن يستخدم حرفياً نفس الديكور والأماكن لتصوير معظم مشاهده مكلفاً لهذه الدرجة؟ لسبب بسيط: ديفيد ميلش.
لنتحدث عن ديفيد ميلش يجب أن نذكر أولاً أنه شخص عبقري لكن ذو مشاكل شخصية كبيرة، مابين أمراضه النفسية، ادمانه على المخدرات والمقامرة على الأحصنة (الشيء الذي سينتج لنا عنه فيما بعد Luck) كان ميلش شخصاً صعب العمل معهّ، رغم أنك لن تجد من الأشخاص الذين عملوا معه سوى المديح والثناء. في ديدوود، بالكاد كان هناك نص للحلقات، ديفيد ميلش كان يكتب المشاهد قبل تصويرها مباشرة، وكان يغير الكثير من الأمور في المشاهد خلال التصوير، وهذا لا يتضمن فقط تعديل الحوارات أو إضافة أسطر، بل أحياناً تصوير مشاهد إضافية كثيرة، وهذا انعكس بشكل مباشر على ميزانية المسلسل التي كانت مرتفعة سلفاً بسبب كونه دراما حقبية ذات ازياء ومباني خاصة. حسب بعض المصادر، تصوير Deadwood كان يكلف قرابة 5 ملايين للحلقة، وكان يتجاوز ميزانيته الممنوحة له في كل حلقة تقريباً، وهذا أمر كانت لتغفره HBO لو كان المسلسل يقدم مردوداً كافياً ليعوض التكاليف الإضافية المتراكمة عن تغييرات ميلش الكثيرة، لكن للأسف Deadwood كان ذا شعبية متواضعة ولم يكن النجاح التجاري الذي أملته القناة.
والدي قال لي: لا تذهب أبداً إلى أي مكان يُعتبر وجودك فيه مستساغاً وحسب.
– ديفيد ميلش، حول عرض HBO لموسم قصير من Deadwood
رغم ذلك، كانت القناة راغبة في الاستمرار مع المشروع وقدمت عرضاً بستة حلقات لديفيد ميلش، لكن أي شخص يعرف ميلش سيقول لك أنه رجل مُمعِن، لا يعرف المساومة في حياته أبداً، يا إما أن تتبعه لأقصى الحدود أو لا تتبعه على الإطلاق، فلذلك من الطبيعي أنه رفض أن يقدم المنتوج الذي تريده HBO، والذي سيكون أقل جودة بالتأكيد. من جهة أخرى، كانت HBO تشك في قدرة ميلش على إدارة مسلسلين في آن واحد، إذ كانت القناة في نفس الفترة قد حصلت على مشروع ثانٍ من ميلش يدعى John from Cincinnati، وبهذا تحتفظ بعبقري مثل ميلش لسنة أخرى تحت سقفها. طبعاً John from Cincinnati فشل فشلاً ذريعاً، ومجرد فكرة أن HBO ظنت أن مسلسلاً مثل John from Cincinnati فكرة سديدة يجعلك تشك في سداد القرارات التي كانت القناة تتخذها في تلك الفترة التعيسة في تاريخ القناة والتي استمرت لسنوات وسنوات إلى حين ظهور Boardwalk Empire كأول مشروع جديد يعيد للأذهان ما الذي تعنيه كلمة ”إنتاج أصلي من HBO“ لعامة الناس.
حتى بعد رفض ميلش لعرض الـ6 حلقات، كان هناك دائماً كلام حول فيلم ختامي للمسلسل، HBO كانت نادمة على قراراتها حسب اعترافات ادارييها، وكانت هناك محاولة دائمة لإعطاء Deadwood وجمهوره النهاية التي يستحقها. حسب بعض المصادر، رئيس HBO آنذاك (ورئيس ستارز حالياً) كريس ألبرشت كان قد التقى بميلش في 2006 واتفق معه شفهياً على إنتاج فيلمين تلفزيونيين لإنهاء Deadwood. الجميع كان مسروراً، زوج من الأفلام التلفزيونية ليس بديلاً لموسم رابع من المسلسل وسرد القصة كما ينبغي، لكنه كان تعويضاً كافياً على الضرر الذي تعرض له الجميع حول الأمر برمته. لكن في 2007، أُجبِرَ ألبرشت على الإستقالة من منصبه كرئيس HBO بعد أن لكم عشيقته بعد نزال فلويد مايويذر ضد أوسكار دي لاهويا في لاس فيغاس، مما جعل الاتفاق الشفهي حول فيلمي Deadwood لاغياً. الخبر كان مفاجئ وصادم إذ أن الرجل خدم HBO لمدة 22 سنة وكان خلف كل إنتاجات القناة الكبرى وعصرها الذهبي، ورحيله جاء في فترة صعبة في تاريخ القناة.
تقنياً، Deadwood لم يتم إلغاءه بشكل رسمي من طرف القناة، والحوارات كانت دائرة بشكل دائم مع ميلش بشكل أو بأخر، لكن عقود الممثلين كانت ستنتهي ولم يكن هناك أي اتفاق رسمي محدد، وكلفة تجديد عقودهم ودفع رواتبهم لسنة كاملة بدون أن يصوروا أي شيء للقناة أمر مكلف بحد ذاته، وحتى لو افترضنا انه بإمكان القناة انتظار سنة مابين موسم وأخر والتعاقد مع الممثلين من جديد، فإنه كان من المحتمل جداً أن معظمهم كان ليكون منشغلاً بمشاريع أخرى تحول دون عودتهم إلى Deadwood، فلذلك وجدت القناة نفسها في موقف عصيب. في 2008، رئيس HBO الجديد ريتشارد بليبلر صرح خلال جلسة القناة في المؤتمر الصيفي لرابطة نقاد التلفزيون أن Deadwood أصبح في طيّ النسيان.
بحلول ذلك الوقت، كان John from Cincinnati قد تعرض للالغاء، HBO حولت نظرها لمشاريع أخرى، الطاقم اتجه لمسلسلات أخرى — أو أفلام هوليوود، في حالة الرائع إيان مكشين — والشخص خلف ذلك كله، ديفيد ميلش، بدى وكأنه لم يعد يعتبر Deadwood من أولوياته، إذ كان مشغولاً بكتابة بايلوت مسلسل يدعى Last of the Ninth، دراما بوليسية بنفس أجواء المسلسلات التي عمل عليها ميلش قبل Deadwood، بالذات NYBD Blue و Hill Street Blues. المشروع لم يرَ النور إطلاقاً، وغاب ميلش عن الساحة لحوالي 5 سنوات قبل أن يعود بـLuck، الذي لم يدم طويلاً هو الأخر.
كخلاصة، ظرفيات كثيرة لعبت دورها في إلغاء Deadwood، بداية بمخططات مهيئة للفشل من طرف HBO، شخصية ميلش المتقلبة، ولكمة طائشة في مرأب سيارات بمدينة لاس فيغاس. ورغم أنه لا يزال هناك أمل في عودة Deadwood يوماً ما ليحصل على النهاية التي يستحقها، يبقى ذلك مجرد حلم إلى أن نراه يتحقق.