من Dragnet إلى True Detective, مسلسلات الجريمة والتحقيقات كانت ولا تزال عموداً يرتكز عليه التلفزيون, ولا يبدو أن هذا العمود سيهدم في أي وقت قريب. لكن سواء كان الأمر يتعلق بدراما اسكندنافية كـThe Bridge أو كوميديا امريكية كـBrooklyn Nine-Nine, لا يوجد اختلاف حول ما ترتكز عليه هذه المسلسلات: مَن؟ لماذا؟ وكيف؟
وعندما نتحدث عن شيء ثابت في التلفزيون لعقود من الزمن فإننا بطبيعة الحال نتكلم عن شيء تم الخوض فيه من كل الجهات الممكنة وتم مزجه بمختلف الأصناف من الكوميديا إلى الخيال العلميّ, مما يعني أنه مجال تنافسي للغاية ومن الصعب أن يجد مسلسل ما مكاناً لنفسه فيه, أحد المغردين على تويتر قال مازحاً أن كل ما يتطلبه أن يصبح لديك مسلسل على BBC هو أن تشير إلى مكان في خريطة المملكة المتحدة وتقول لهم ”مسلسل تحقيقات… لكن هنا!“, ومهما بدت هذه الفكرة تافهة للغاية وربما غير واقعية إلا أنه يصعب نكران أنها تبدو قريبة من الحقيقة بالنظر إلى إنعدام الإبتكار في معظم مسلسلات الجريمة والتحقيقات التي تُنتج هذه الأيام, وأحياناً يحدث العكس, يقوم أحد ما بالمبالغة في الإبتكار لدرجة أن يصبح الأمر سخيفاً.
ثم لدينا Line of Duty, مسلسل بريطانيّ انطلق عام 2012 يدور حول وحدة AC-12 المتخصصة في مكافحة الفساد التي ينضم لها بطلنا ستيف أرنوت بعد حادثة كلفت حياة شخص بريء في عمله السابق لدى وحدة مكافحة الإرهاب, والتي قد تكلفه مسيرته المهنية. أول قضية يتسلمها صديقنا أرنوت متعلقة بالمحقق صاحب الأرقام المُبهرة في مكافحة الجرائم طوني غيتس (ملعوب ببراعة من طرف ليني جيمس) والذي يشتبه الرقيب هيستينغس (أيضاً ملعوب ببراعة من طرف إدريان دُنبار) أنه يقوم بمخادعة النظام لتحسين أرقامه الفلكية, خلال التحقيق في هذه التهم يكتشف أعضاء AC-12 ماهو أبعد بكثير من ذلك.
إذا ما الذي يميز Line of Duty عن مسلسلات ”مسلسل تحقيقات… لكن هنا!“؟ أولاً, الطريقة التي يتناول بها القضية. هناك تركيز مثير للإهتمام على البيروقراطية التي تُثقل كاهل العدالة ومكافحي الجريمة, سواء كان يتعلق الأمر بمجرم دنيء أو شرطيّ فاسد أو ضحية بريء, يأخذ Line of Duty موقفاً من كل تلك الأشياء التي لا نراها في مسلسلات التحقيقات الأخرى, فعندما ينبسط شرطيّ مبتدء من تنفيذ عمله على أكمل وجه تمتعض زميلته من الستة ورقات التي سيتعين عليهما ملئها والتي كان ليكون عددها أقل لو أخذت الأمور منحنا أخر سيء, ينجح المسلسل في جعل هذه الأمور التي قد تبدو تافهة وغير مثيرة للإهتمام في العمل اليوميّ لرجال الشرطة مثيرة للإهتمام وهذه نقطة تحسب له, ويجعلنا نتسائل: ماهو الأسوء, البيروقراطية أم الفساد؟
ثانياً, هناك أداء تمثيليّ جيد والذي في الحقيقة قد يكون أمراً نادراً في مسلسلات التحقيقات, أنا لا أقول هنا أداءاً أوسكارياً أو أي شيء من هذا القبيل لكن بمعايير التلفاز فإن ممثلي المسلسل يقومون بعمل جيد, خصوصاً الممثلان اللذان لعبا دور الشخصيتين محط التحقيق في موسميّ المسلسل واللذان قدما أداءاً مذهلاً سيجعلك تتعاطف رغماً عنك مع شخصيات يقول لك المسلسل أنها شريرة, لأنه في هذا المسلسل لا يوجد أبيض و أسود, لكن الكثير من الرمادي.
ثالثاً, القصة محبوكة بشكل رائع وهذه أكثر نقطة تحسب للمسلسل, هناك الكثير من المفاجئات التي تكشف لنا عن نفسها حلقة تلو الأخرى والتي تضرب بعرض الحائط كل تلك الأشياء التي ظننت أنك تعرفها تمام المعرفة, والحقيقة أنا كنت مبهور من المسلسل من هذه الناحية بالرغم من تحفظاتي على جوانب أخرى في المسلسل. في كلا الموسمين إستطاع مؤلف المسلسل أن يحبك قصة مترابطة وقوية ومحيّرة والتي ستُبقيك تخمن طوال الوقت حول هوية الأشخاص خلف الجريمة وكذا مدى براءة أو ذنب الأشخاص الذين نظنهم مذنبين (أو أبرياء), بمساعدة من الأداءات الجميلة للطاقم التمثيليّ.
على ذكر التحفظات, أكثر ما أزعجني في المسلسل هو الحوارات التي تراوحت عيوبها مابين سطحيتها أو إفتقادها للعمق أو لتباينها الواضح مابين المشاهد والحلقات, ففي مشهد قد تجد حواراً ذكياً بين شخصيتين ينتهي بعبارة ذكية للغاية, ثم في مشهد أخر ترى الشخصيات تتحدث بشكل يشبه شيئاً قد كتبه طفل مراهق. لكن رغم ذلك وجدت نفسي مستمتعا ببعض الجمل الذكية التي قيلت (المسلسل يتجرأ حتى على إقتباس الواير في جملة ”إذا صوّبت على الملك…“), ولم أمانع أن المسلسل يعوض ذلك النقص الذي بدى لي في تلك المشاهد بجعل الشخصيات تقول أشياءاً ذكية في مشاهد أخرى, ولو أن ذلك يجعل نوعاً من التباين بين المشاهد إلا أن تجربتك الشخصية قد تختلف عن تجربتي أنا وقد لا تنتبه على هذا الأمر على الإطلاق.
الأهم من هذا, في المسلسل كان هناك نوعان من اللحظات, لحظات هادئة و ذكية ولحظات سريعة وصارخة, وكانت هذه اللحظات في نوع من الصراع فيما بينها حول أيهما سيأخذ أكبر قدر من الإهتمام, وللأسف فإن هذه الأخيرة هي التي كانت الأولوية للمسلسل. هذا لا يعني أن Line of Duty مسلسل سيء, كل ما يعنيه ذلك هو أن لا تتوقع من هذا المسلسل أن يقدم لك نفس العمق الذي تجده في مسلسلات مشابهة كالواير والشيلد, جزء من ذلك يعود لعدد حلقاته القليل (والذي لا أنكر أنه من الإيجابيات التي جذبتني للمسلسل) الذي لا يسمح له بأن يعطينا وقتاً أكثر مع هذه الشخصيات, والذي ينعكس سلباً على تعاطفنا معهم ويقلل من قوة بعض الأحداث التي قد تتطلب منا أن نكون متألفين مع هذه الشخصيات بشكل عميق لكي يكون لها أي نوع من التأثير. لكن مع قصة محبوكة بهذه القوة فإن زيادة عدد الحلقات قد يكون له تأثير سلبيّ على هذه الحبكة, يعني الأمر في النهاية يبقى خيار بين إتجاهين لكن في الحالتين لا تُحس بالخذلان لأن المسلسل يجيد جداً أحدهما.
أيضاً إنزعجت من شيء بسيط والذي قد لا يكون مهماً حقاً, وهو أنه في خاتمة الحلقة الأخيرة من كل موسم يقوم المسلسل بشرح مصير الشخصيات على طريقة وثائقيات الجريمة الحقيقية, والتي جعلتني محتاراً في السبب الذي قد يجعل مؤلف المسلسل يحاول أن يجعلنا نظن أن هذه أحداث حقيقية أو أن يجعلنا نتعامل معها على أنها أحداث حقيقية. لكنه مونتاج صغير في أخر كل موسم ولا يهم حقاً. كل ما في ذلك هو أن المسلسل كان ليوصل رسالة أقوى لو ترك المشاهد يصل إلى استنتاجاته الخاصة, سواء بإظهار مونتاج بدون شرح أو بدون مونتاج حتى.
تحفظاتي هذه كلها لا تنقص حقاً من الشكل الذي خرج عليه المسلسل, وإنما أشياء مُحبطة في مسلسل كانت لديه الإمكانية ليكون أفضل بقليل, والتي لا تمنع من الإستمتاع بالمسلسل كما هو.
لكن ما الذي يعنيه عنوان المسلسل, ”Line of Duty“؟ سيكون من المؤسف حرمانك من إكتشاف ذلك بنفسك عندما يُشرح لك العنوان بشكل جميل في الحلقة الأخيرة من الموسم الأول, واحدة من اللحظات الذكية في المسلسل.
التقييم النهائيّ
الكتابة: | حبكة قوية وحوارات متوسطة | |
التمثيل: | بعض الأداءات مميزة للغاية | |
الإخراج: | لا أعرف ماذا يسمى ستايل التصوير في المسلسل بالظبط لكنه يشبه الـMockumentaries, وهو أمر وجدته غريباً | |
رأي شخصي: | باختصار, انه مسلسل قصير ومسلي | |
7.25 / 10 | Line of Duty يستغني عن قصص رجال الشرطة العباقرة لأجل التفاصيل الدقيقة في سير عمل مكافحة الجريمة, وينجح في أن يبقى مثيراً للإهتمام رغم ذلك بفضل التوازن الذي يخلقه مابين الحركة والدراما, بحيث تكون مشاهد الإستجواب التي تُشبه المبارزة الذهنية جيدة بقدر مشاهد المطاردة والإثارة. |