دراما النخبة وأفضل مسلسل في الطاريخ!

في أواخر الثمانينات أو بداية التسعينات تم إختلاق وصف للمسلسلات التي خرجت عن النمط المألوف لمسلسلات التلفزيون وخلقت لنفسها نمطها الخاص, تلك المسلسلات المكتوبة بعناية فائقة والتي تشبه الأفلام أكثر مما تشبه المسلسلات, طبعاً في تلك الفترة كان ذلك يعني مسلسلات مثل Hill Street Blues و Northern Exposure و My So-Called Life والتي كانت أذكى بكثير من المسلسلات الشائعة في تلك الفترة كـMelrose Place و Dallas والتي قد تبدو لنا اليوم أشبه بالسوب أوبرا أكثر من ما نسميه بمسلسلات البرايم تايم, ذلك الوصف هو: Quality Drama, أو بترجمة رضوانية: دراما النخبة. (أعلم أن هذه ترجمة خاطئة، وأعلم أيضاً أن الترجمة الأدق هي أن أضع ”نخبة“ أولاً و ”دراما“ ثانياً، لكن هل هذه ترجمة خاطئة اكثر من ”لُب الخيال“ أو ”إختلال ضال“، أو حتى… ”رجال مجانين“؟)

هذا الوصف تطور طبعاً نظراً لتطور التلفزيون وأصبح يشمل شيء أعلى وأفضل من مجرد مسلسلات كسرت النمط, بل مسلسلات تحدت حدود ما يمكن عرضه على التلفزيون وتفوقت أحياناً على أي ما كان يعرض في السينمات آنذاك. أنا طبعاً اتكلم عن مسلسلات الكيبل وبالخصوص HBO ومسلسلاتها. ما الذي أرمي له من خلال درس التاريخ والبديهيات هذا؟ لحظة يا عزيزي القارئ, سنصل إلى ذلك قريباً.

من الأشياء التي تزعجني كمشاهد للتلفاز في 2016 هم أولئك الأشخاص الذين يسارعون إلى إطلاق أوصاف كـ“أفضل مسلسل في التاريخ“ وما إلى ذلك على مسلسلات يحبونها رغم أنهم بالكاد شاهدوا أي شيء غيرها.

لكن ماهو أفضل مسلسل في التاريخ؟ وما الذي يجعله أفضل مسلسل في التاريخ؟ لا توجد إجابة واحدة على هذين السؤالين, إذا لماذا تختلف الأراء حول هذا الموضوع؟

للبحث والتعمق في الموضوع سألت عدة أعضاء من الفريق التحريريّ عدة أسئلة, وكانت أجوبتهم مختلفة لكن كلها كانت تتشابه في شيء واحد, كما ترون إدمان المسلسلات تشبه كثيراً إدمان المخدرات, في البداية قد تبدأ بأشياء صغيرة كالتدخين (مسلسلات الشبكات), يلهيك قليلاً لكنه لا يجعلك تشعر بأي نوع من النشوة وتعود له دوماً فقط لأنك معتاد عليه فقط لا غير, عندها تبدأ بالبحث عن شيء أعلى, فتدخن الحشيشة (مسلسلات شبكات ممتازة أو بيزك كيبل) فتستمتع وتشعر بقليل من النشوة, لكن عند تلك اللحظة تجرب قليلاً من المسحوق الأبيض الذي يدعى HBO (أو دراما النخبة عموماً) فتشعر بنشوة لم يسبق لك أن شعرت بها في حياتك, تجعلك ترى عوالم خيالية بألوان زاهية أصفى وأبرق من ألوان الحياة, عند هذه اللحظة لا يتبقى لك سوى شيء واحد… أن تحقن ذلك الشعور مباشرة في مجرى دمك (نخبة دراما النخبة), فتصل إلى أعلى مستوى من النشوة على الإطلاق.

كله كويس (بقدر ما يمكن أن يكون تعاطي المخدرات كويساً), إلا أنك تعجز عن بلوغ تلك النشوة مجدداً رغم حقن المزيد من مخدر ”دراما النخبة“ في مجرى دمك, فتقضي حياتك كلها سعياً نحو ذلك فتفشل, ليس لأن نسبة تركيز المخدر أقل من ذي قبل أو أي شيء من هذا القبيل, بل لأن جزءاً كبيراً من تلك النشوة هو كونها أول تجربة على الإطلاق. فكروا في الأمر على أنه ممارسة الجنس لأول مرة الحب الأول, لا يهم ما تفعله, ستعجز دوماً عن تكرار تلك التجربة الأولى, ونفس الأمر مع كل تجارب الحياة مهما كان نوعها.

لنعد للمسلسلات, مسلسلات التوب 10 (للمثال فقط: The Sopranos, The Wire, Mad Men, Six Feet Under, The Shield, The West Wing, Seinfeld, Friends, Breaking Bad, Band of Brothers) كلها ممتازة للغاية ومن الصعب جداً القول أن أحدها أفضل من الأخر. هل بريكين باد أفضل من ماد مِن؟ لا. هل ماد مِن أفضل من بريكين باد؟ لا. هل من الممكن أن تكون تجربة مُشاهِدين مختلفين للمسلسلين مغايرة تماماً؟ حتماً. ”التجربة“ هنا قد تتضمن أي شيء, من شخصية المشاهد إلى طريقة تسريح شعره, مواظبته على الصلاة, عدد الروايات التي قرأها, رأيه في كيم كارداشيان, أو نوع الإباحيات التي يفضلها, بدون أن ننسى طبعاً: المسلسلات أو الأفلام التي شاهدها قبل مشاهدة أي من المسلسلين. يعني ان حقنة الهيروين إياها قد تكون بريكين باد عند الشخص 1 وقد تكون ماد مِن عند الشخص 2, وفي الحالتين بريكين باد و ماد مِن كلاهما أفضل مسلسل في التاريخ.

إذا خلاصة كل ذلك الكلام هي كالتالي: لا يعلى على نشوة التجربة الأولى. لنستمر أكثر لقليل من الوقت في هذه الفكرة, لنأخذ السوبرانوس, لو جمعنا كل قوائم النقاد في العالم ودمجنا ترتيبها إلى قائمة واحدة فإن السوبرانوس هو من سيعتلي تلك القائمة على الأرجح, لماذا الجميع يرى أن السوبرانوس هو الأفضل في التاريخ؟ ولماذا لم يتغير رأي النقاد الذين عاصروه فيه لحد الساعة رغم صدور الكثير من المسلسلات الممتازة بعده؟ هل من الممكن أن نعزو ذلك لكونه التجربة الأولى في دراما النخبة (نخبة النخبة) للكثير من الناس؟ لا أعلم, لكن هذا سؤال يوراويدوني.

هذه النظرية, إن كان يحق لي تسمية كل ما سبق على أنه ”نظرية“ (وأنا أتطلع لقراءة على تعليقات وأراء بقية المشاهدين خارج فريقنا التحريري وتجاربهم الشخصية في إطار ما ذُكر أعلاه، بالذات الأراء التي تظن أن الكلام السالف الذكر هو هراء محض), لا تعني بالضرورة أن أول تجارب المرء مع دراما النخبة ستكون هي أعلى نشوة له, قد تكون الثانية أو الثالثة, لكن الأكيد هو أن أي شيء بعد تلك التجربة سيفشل حتماً في جعله يصفها بأنها ”أفضل مسلسل في التاريخ“.