العنوان مبالغ فيه بعض الشيء, وهذا أمر مقصود. في جريدة الرياض السنة الماضية صدر مقال تحت عنوان ”True Detective… المسلسل الذي قال كل شيء“ وفيه تغزّل الكاتب في فلسفة المسلسل وثيماته وشخصياته وفي كل شيء باستثناء الجزء الفنيّ منه.
يفعل كثير من الناس هذا, يتناسون أن الافلام و المسلسلات التلفزيونية هي قبل كل شيء ”فن“, ومهما كانت هذه الأعمال الفنية تتدخل في مجالات أخرى خارج المجال الفنيّ فإنه يتعيّن عليها أن تتقيد ببعض الأسس التي تميّز الفن الذي تنتمي له. هذه الأيام هناك زوبعة كبيرة حول Mr. Robot مسلسل USA الجديد, ومن أبرز النقاط ”الإيجابية“ التي يتم ذكرها حول المسلسل هو تمثيله الواقعيّ للهاكرز وثقافة الهاكرز واستخدام شخصياته لنظام لينكس بدل نظام ”شاشة داكنة عليها نص أخضر“ الذي اشتهرت به الأفلام لعقود من الزمن, ما لا يتم التطرق له هو كتابة المسلسل المشتتة و المحيّرة, وتعدد الخطوط السردية الغير مترابطة أو التي رابطها ضعيف بالقصة التي بدأ من خلالها المسلسل في البايلوت, فها شخصيته الرئيسية اليوم تقتحم مبناً محروساً حراسة شديدة, وغدا نتبع قصة رجل و زوجته وهما يحاولان نيل منصب معيّن ويتحدثان بلغة غير الإنجليزية لسبب غير واضح لحد الساعة. هناك الكثير من القصص الفرعية, كل شخصية لها قصة فرعية وللأسف هناك الكثير من الشخصيات ووقت لا يتسع لهم ولقصصهم جميعاً, فالناتج هو قصة مشتتة. لكن المشاهد الذي لا يركز في هذه الأشياء يجد نفسه مبهوراً بنهاية كل حلقة عندما يحدث شيء صادم لشخصية معينة أو أحدهم يقول شيئاً مؤثراً للغاية, وهذا النوع من النهايات يبدو أنه مُستخدم في كل حلقات المسلسل لدرجة الإبتذال.
عفواً, نحن هنا للتحدث عن ترو ديتكتيف, لكنني قصدت أن أضرب مثالاً وحسب. في الموسم الاول من ترو ديتكتيف, لو سألت أي شخص في أول خمسة أسابيع من انطلاق المسلسل عما يراه في المسلسل فإن إجابته ستكون مقتضبة للغاية: شخصية (راست) التي يلعبها (ماثيو ماكونوهي). هذا الرجل لوحده رفع من قيمة مسلسل بأكمله بتقمصه الفريد من نوعه لهذه الشخصية, إن (ماكونوهي) بأداءه جعل أسطراً ما كانت لتعمل مع أي ممثل أخر (شيء رأيناه بوضوح في الموسم الثاني) تعمل في هذا المسلسل, لقد أقنعنا (ماكونوهي) أنه يمكن لمحقق أن يستخرج إعترافاً من مجرم كقسّ في كنيسة, ونحن صدقناه لأنه لعب ذلك الدور ببراعة. وساعده أيضاً (وودي هارلسون) الذي بخبرته السابقة في التمثيل مع صديقه (ماكونوهي) استطاع أن يعطي توازنا لذلك الثنائي بلعبه للشخص ”العاديّ“ والذي يرى العالم بسيطاً كما نراه نحن. وبفضل هذين الممثلين وإخراج فوكوناغا خرج المسلسل بموسم أول تبعده عن الجنون والسخف شعرة واحدة. لقد استمتعت بذلك الموسم, أظن أن أداء (ماكونوهي) سيدخل التاريخ وسيخلد في قوائم ”أفضل اداء تلفزيونيّ“ منذ الآن فصاعداً, لكن الموسم كان على وشك أن يؤدي به ذلك التوجه الفلسفيّ المبالغ فيه إلى حالة من ”الإمبراطور الذي لا يرتدي شيئاً“.
”الإمبراطور الذي لا يرتدي شيئاً“ قصة من الفلكلور الإسبانيّ أو الدانماركيّ (أصولها غير معروفة) وتدور حول ملك قيل له أن هناك ثوباً لا يراه سوى الأذكياء من القوم, شك الإمبراطور في صحة ذلك و أرسل مبعوثين للتيقن من ذلك, المبعوثان خشيا أن يظهرا بمظهر الغبيين فقالا أنهما رأيا الثوب, فقرر الإمبراطور إرتداء هذا الثوب في خرجته القادمة. عندما سمع المواطنون هذا الخبر تجمهروا في انتظار الإمبراطور ليعرفو من هو الأغبى من بين جيرانهم, وعندما مرّ موكب الملك من أمامهم كلهم قالو أنهم يرون ثوب الإمبراطور, إلا طفل صغير قال بكل براءة ”ولكنه لا يرتدي شيئاً!“, وفور ما انتشر هذا بين المواطنين, عند تلك اللحظة أدرك الإمبراطور صحة قول ذلك الطفل ورغم ذلك رفع رأسه واستمر في موكبه غير مبالٍ.
لو قلت لأي أحد أنك تظن أن ترو ديتكتيف مسلسل فارغ لا لُب فيه (وهذه مبالغة أيضاً) لقال لك أنك غبيّ على أن تفهمه (وهذه مبالغة أخرى), وكأن شهادة في الفلسفة أصبحت مطلوبة قبل أن يُسمح لك بالقول أن Time is a flat circle جملة لا معنى لها, وأن نيتشه بالرغم من كل تلك الأشياء الذكية التي قالها فإنه هو الأخر تفوه بأشياء مجنونة. هل خلف كل تلك الجمل التي رددها (راست) معنى ومغزاً يٌستنبط؟ هل القاتل فعلاً مُجرد بُستانيّ مجنون قام بتجميع بعض الحطب في وقت فراغه وصنع منه ”كاركوسا“؟ هل كل تلك الأحداث فقط لكي يخبرنا راست أن ”الضوء يتفوق على الظلام“؟
الأمر الذي يقودني للحديث عن الموسم الثاني الكارثيّ, من أين أبدأ؟ الحوارات الكرتونية؟ أسماء الشخصيات والأماكن الغريبة؟ القصة المشتتة؟ أنه تعيّن عليّ قراءة مقالة طويلة قبل مشاهدتي للحلقة الأخيرة لكي أتأكد أنني ”فاهم“, كحال كثير ممن شاهدوا الموسم؟ أم الأداء الكارثيّ لبعض الممثلين الذين لم يساعدهم حقاً النص الكارثيّ؟ أم الإخراج الذي حاول أن يقلد الموسم الاول لكن فشل فشلاً ذريعاً؟ غياب (ماكونوهي) الذي جعل بعض الشخصيات تتحدث إلى نفسها بمونولوغات طويلة وعميقة تحت ذريعة تسجيل رسائل صوتية؟ مشاهد التسلل و الهروب و المطاردة السخيفة؟ كل هذا وكل شيء, Everything, و Everything is fucking.
في الحقيقة أنا لست من كبار المُعجبين بـ(نيك بيزلاتو), أرى أنه تم إعطاءه أكثر من حقه. إن الأفكار التي تداولها في الموسم الأول لم تكن من وحي خياله وإنما مأخوذة من كتابات لأشخاص أخرين, كل ما فعله هو أنه أخذ قصة خيالية وجعلها محور المسلسل وثم أتى بمقولات (نيتشه) و (كونديرا) وحوّرها بطريقة تجعلها تبدو وكأنها أفكاره الشخصية, لكن بنهاية المطاف أشخاص أذكى بكثير منه اكتشفوا الموضوع وأظهروه كالأضحوكة التي هو عليها. أما الموسم الثاني ففيه رأينا إلى أي درجة تصل سخافة هذا الرجل, مع غياب مواد مسروقة (على حد علمنا) فإن كل ما تتفوه به كل الشخصيات هو هراء من المفترض أن يبدو عميقاً, فيخرج على ماهو عليه, كومة من الهراء. الحقيقة أن الموسم الثاني لم يبدأ إلا بعد الحلقة الخامسة, حيث تحسّن المسلسل كثيراً, ولعل الموسم كان يجب أن يبدأ بتلك الشخصيات من تلك النقطة, من الحلقة الثانية مثلاً, وهنا كانت الحلقات الثمانية ستكفي لرواية قصة أفضل بكثير من التي رأيناها.
عندما سُئل رئيس إنتاجات HBO (لومباردو) عن إنتقادات الموسم الثاني كذب بكل بجاحة وقال ان الموسم ممتاز, و أنه لا يجب علينا أن نحكم عليه قبل إنتهاءه. معذرة يا سيدي الرئيس, هذا مسلسل وليس رواية, نحن نحكم عليه بالطريقة التي يصدر بها, حلقة بحلقة, وحتى في الروايات نحكم عليها في منتصفها, كم من قارئ ترك رواية في منتصفها لأنها أصابته بالضجر؟ أن تقول لنا أنه لا يجب علينا أن نحكم عليه حتى انتهاءه سٌخف وتفكير حالم, وكنت لأعذر مقولتك هذه لو أن القناة تطرح كل حلقات المسلسل دفعة واحدة مثل نتفليكس, عندها يمكنك أن تقول أنه يُحكم عليه كاملاً وليس مُجزءاً, لكن إلى ذلك الحين, فالنقاد أعطو كلمتهم, وكلمتهم أن الموسم الثاني سيء.
النقطة التي أريد الوصول إليها هو التالي: لا بأس أن يكون هناك توجه فلسفي للمسلسل, أو رياضيّ, أو تقنيّ, أو بطيخيّ حتى, مادام هذا لا يعني تهميش الجوانب الأخرى للمسلسل. إن كنت تريد أن تتفوه شخصياتك بهراء عميق, لا مشكلة, فقط إجعل القصة تستوجب ذلك, ولا تُكثر منه لكي لا يفقد معناه. إذا كنت تريد مسلسلك ان يصوّر عالم الرياضة بشكل دقيق, لا مشكلة, ما دامت هناك قصة واضحة تتبعها شخصيات المسلسل وتذهب بها من نقطة أ إلى نقطة ب. إن تلك التوجهات يجب أن تكون ثانوية, بمعنى أنه يجب عليك كتابة القصة أولاً ثم تستكشف تلك التوجهات, وليس العكس. لا تدخل قاعة الكتاب وتقل: نحن في هذه النقطة, وأريد أن ينتهي المسلسل في تلك النقطة, وثم تبدأ بملئ الفراغات.
مثال على ذلك كان بريكين باد في موسمه الأخير, والذي لم يكن سيء بسوء ترو ديتكتيف ولكنه تاه قليلاً بإتخاذه هذا المنهج, حيث بدأ نصفه الثاني بوالتر وايت وهو ملتحٍ أمام بيته المسيّج وثم تعيّن على الكتاب الوصول إلى تلك النقطة في 6 حلقات أو حوالي ذلك, الناتج كان جيد نسبيا ولن أقول عنه سيء لكن ليس أفضل ما فعله (فينس غيلغان) برأيي.
إن القصص وتطور الشخصيات يجب أن يُستكشف خطوة خطوة, وإنك بتحديد نقطة النهاية تضع نفسك في زاوية قد تجد الخروج منها صعباً. السرد يجب أن يكون حراً, يجب أن تذهب حيث تؤديك القصة. لا ضير أن تعرف إلى أين أين تريد الذهاب, لكن يجب أن تصل إلى تلك النقطة بطريقة طبيعية بدل أن تُجبر القصة وتطوّعها لرؤيتك. إذا أردت أن تصل شخصيتك للإفلاس التام بنهاية الموسم, لا يمكنك أن تقول لنا في أول حلقة أنها ذكية وصنعت مالها بذكائها وحذرها ثم تجعلها تقوم بسلسلة غريبة من الاستثمارات تؤدي بها إلى الإفلاس, أو شيء من هذا القبيل, لأنك بهذا تناقض القصة وتناقض شخصياتك والمشاهدون يجدون صعوبة في تصديق ذلك.
كل هذا لكي لا يقع كتاب المسلسلات في ورطة الإمبراطور الذي لا يلبس شيئاً, لأنه أحياناً… الحقيقة تُرى من وجهة نظر طفل… مُلتحٍ. 😁