منذ عقود و نحن كمسلمين و عرب نعتبر انفسنا جزء لا يتجزا من القضية الفلسطينية التي ندافع عنها رغم جهلنا بتاريخها و المراحل التي سارت على نهجها، لهذا رغم قلة الاعمال الدرامية العالمية التي تناولت هذه القضية بشكل موضوعي او بحيادية ايجابية فنعتبر مسلسل كارلوس نقلة نوعية في التعامل مع مثل هذه القضايا كما انه لا يكتفي بموقفه الحيادي يل يسعى ليعرفنا على فترة زمنية جميلة كانت فيها القضية الفلسطينية نتنقل من النطاق العربي الى النطاق العالمي فاتحة صفحة جديدة في صراعها الازلي مع العدو الصهيوني.
Carlos هو مسلسل تلفزيوني قصير من انتاج فرنسي الماني مشترك، و من تقديم الرائعة Canal+، حيث اخرجه الكبير Olivier Assayas و من كتابة كل من Dan Franck و Daniel Leconte، حيث خصص له اكثر 18 مليون دولار و صور في الكثير من الدول منها ”فرنسا، انجلترا، لبنان،النمسا،الجزائر، السودان و اليمن“، كما لا ننسى انه من بطولة الرائع Édgar Ramírez مع كل من اللبناني Ahmad Kaabour و الحسناء الالمانية Anna Thalbach، حيث قدم هذا العمل في نسختين الاولى تلفزيونية مدتها 339 د قسمت على ثلاث حلقات،اما النسخة الثانية فكانت سنمائية عرضت في مهرجان كان السنمائي و مدتها لا تتجاوز 166د.
خلال اكثر من 5 ساعات، حاول الكتاب ان يجسدوا لنا اهم المراحل النضالية التي عاشها الاسطورة كارلوس ابتداءا بالتحاقه بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين انتهاءا بالقاء القبض عليه في السودان في بداية تسعينيات القرن الماضي، فاذا كنت تجهل هذا الاسم كما كنت انا، فهذاالعمل يضعك في الصورة الحقيقة لهذه الاسطورة الحية بكل من حملته من ابعاد اجتماعية و سيسولوجية، فالكتاب لم يكتفوا بعملياته الجريئة او خططه الذكية بل تطرقوا الى حياته العاطفية الاسرية و حتى الوجدانية منها، فالعمل ارى انه كان شامل و حاول باجتهاد ظاهر ان يعطي لهذه الشخصية حقها رغم اكثر من عقدين من التضليل الممنهج.
فاذا كنت لا تعلم من هو ”كارلوس“ فهو “ إلييتش راميريز سانشيز“ و هو من مواليد 1949 و من اسرة فنزويلية ثرية، حيث درس في جامعة موسكو قبل ان ينضم الى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد اقتناعه بالمبادئ الشيوعية و ايمانه بالقضية الفلسطينية، اعتنق الاسلام سنة 1975، و من اهم انجازاته اكبر عملية اختطاف للسياسيين في التاريخ او بما عرف بحادثة الاوبيك الشهيرة، القي عليه القبض في السودان و نقل الى فرنسا حيث حكم عليه بالمؤبد و هو يقضيها لحد الساعة في سجن لو سانتي .
لا اعتقد انك سمعت من قبل عنه لان الاعلام العالمي عمل خلال العشرين سنة الماضية على محو اسم واحد من اكبر ايقونات الثورة و التمرد في العالم، فللاسف لا يمكننا ان نلوم التاريخ لانه يكتب بحبر الاقوياء لكنني نلوم حاضرنا و ثقافتنا و مصدر معلوماتنا، فما فعله كارلوس يعتبر نقلة نوعية في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، فهو من خطط و نفذ العشرات من عمليات الاغتيال في اوروبا خدمة للقضية الفلسطينية و رغبة في القضاء على شبحي الامبريالية و الصهيونية، لكنه في النهاية وجد نفسه وحيدا معزولا، فتلاشى ارثه و دفن اسمه، فلم تشفع له صيحاته “ كن منصفا يا سيدي القاضي … ذنبي انا رجل له ماضي “ بل سجن و اذل حتى انه حرم من مشاهدة مسلسل يعيد سرد تاريخه و يمجد ارثه.
فكارلوس ليس وحده من خدم القضايا العربية بشكل عام و القضية الفلسطينية بشكل خاص فهناك العشرات من المناضلين الذي وهبوا حياتهم من اجل قضية امة مشلولة و ضحوا بالغالي و النفيس من اجل تحقيق العدالة الأممية و لو للحظات قليلة، فهؤلاء ليسوا فاشلين او ارهابيين بل مجرد ثائرين متمردين على المبادئ السياسية البرغماتية التي ضربت الثوابت الذاتية و حولت القيم الانسانية الى قيم استغلالية.
فانا لست ضد الامبرالية لكنني حتما من معارضي الصهيونية و اي تيارات اجتماعية و دينية متطرفة، لكن هذا المسلسل القصير كان موضوعيا فوق العادة و محايدا الى ابعد الحدود، فهذا طبيعي عند تناول قصة واقعية او احداث تاريخية، لكن الجميل فيه هو تقسيمه على ثلاثة مراحل و كل مرحلة ركزت على جانب محدد من حياة الاسطورة كارلوس، فالجزء الاول تناول بدايته في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و كيف تدرج للوصول الى اعلى المراتب و اكتسابه لشهرة عالمية بعد عملياته الناجحة و حتى الفاشلة، فهو لم يكن يمثل يومها ذاته الثائرة بل تحول الى رمز لايدولوجيا حية و صار طرفا في صراع عقائدي عالمي بين العملاقين السفياتي و الامريكي، اما الجزء الثاني فكان مخصصا لحادثة الاوبيك التي كان كارلوس من المخططين و المنفذين لها، حيث ابرز الكتاب في هذه المرحلة قدرته على تسيير مواقف صعبة و اصدار القرارات المصيرية نظرا للضروف المحيطة و المتغيرات الاقليمية و الدولية و انا وجدت في هذا الجزء الكثير من التشويق لانني اعتقد ان هذه العملية هي التي غيرت كارلوس ليس على المستوى الفكري بل على المستوى النفسي، فبعد هذه العملية ارى ان كارلوس اكتسب خبرة ميدانية واسعة و ادرك دروسا سياسية قيمة اهمها ان حتى دولا كبرى يمكن ان تغير مواقفها كما يغير الانسان البسيط من نظرته او يجدد مبادئه، فالسياسة لها تقلبات كثيرة و انعكاسات خطيرة و الغريب انها لا تخضع لنظريات علمية او مناهج دقيقة، اما الجزء الثالث فركز على الدور الذي لعبه كارلوس خارج اسوار الجبهة الشعبية و انفراده بتنظيم خاص قائم على نفس المبادئ الشيوعية التي تربى عليها، فخلال هذا الجزء ستدرك ان للدول دورا كبيرا في تاسيس التنظيمات المختلفة بحيث تلعب باوراق المصالح المتضاربة و تقوم باستغلال هذه الخلايا الحية من اجل تحقيق اهداف اقليمية مختلفة، لهذا ما نراه اليوم على الساحة العربية بشكل خاص من تنظيمات دينية مختلفة فهو ليس وليد اليوم او اللحظة، بل تقف خلفها دول كبرى و شركات ضخمة تسعى باموالها و نفوذها ان تهيمن من جهة و تعيد رسم الخريطة السياسية من جهة اخرى.
ذا تحدثنا عن الاسماء الكثيرة التي زينت هذه اللوحة التلفزيونية فاكيد سنتحدث مطولا عن المفاجئة ان صح التعبير ”ادجار راميرز“ الذي قدم افضل دور في مسيرته لحد الساعة، فاستطاع بهذا التجسيد الخرافي ان ينتزع جائزة افضل ممثل في حفل جوائز سيزار 2011، فمن النظرة الاولى سياسرك راميرز بكارزمته الكبيرة و تقمصه المثالي، حيث ان لكنته اللاتينية و بنيته الموفولوجية ساهمت في نجاحه الباهر، فانا مازلت اتسائل كم لغة يجيدها هذا الممثل الفنزويلي، فخلال حلقات هذا المسلسل تراه يتحدث العربية، الفرنسية، الانجليزية، الالمانية و الاسبانية، و الله شيء مبهر و عمل جبار يؤكد مدى انغماسه في عالم كارلوس، كما انه صرح لموقع allocine انه قرا العشرات من الصحفات و شاهد المئات من المقاطع ليدرك ابعاد كارلوس، و هذا يبدوا جليا حيث تجد نفسك ترفع له القبعة بمجرد نهاية المسلسل، كما انني لن اغفل الدور المميز الذي قدمه احمد قعبور، فانا لست متابع لاعماله الموسيقية او التلفزيونية من قبل لكنه اثار اعجابي، فليس من السهل ان تلعب دور وحيد حداد، فهو الآخر اسطورة فلسطينية كثيرة الانجازات لكن قليلة الذكر، فاحمد كعبور ادى دوره و اكثر، فكل المشاهد كانت متقنة و باحترافية عالية، لهذا كان اختياره في محله و وجوده زاد من جمالية هذا العمل المميز.
اذا تحدثنا عن ايجابيات هذا العمل فهي كثيرة و متنوعة، فالى جانب التمثيل المميز فالنص كان قوي و تقسيم الاحداث كان في قمة الروعة، لان التركيز على احداث مصيرية و القفز على الجزئيات الغير ضرورية زاد من جمالية العمل، لكنني لا انكر انني شعرت بالضجر في الكثير من الاوقات و هذا طبيعي لان الكتاب تمسكوا بالواقعية التاريخية فهم غير قادرين على خلق اجواء خيالية او المبالغة في طرح الاحداث العادية لهذا البعد التاريخي فرض نفسه و الكتاب احترموه و فضلوا المصداقية على الجانب الترفيهي، فستلاحظ اخي القارئ ان المزج بين الدراما و الحركة كان في غاية الدقة فلم نرى احد الجانبين يطغى عن الآخر، كما ان القائمين على العمل لم يتناسوا المؤثرات البصرية من الديكورات الدقيقة الى الملابس المتقنة، فلمسة المخرج اوليفر ايضا كانت واضحة و هي التي لعبت دور كبير في تجسيد الابعاد النفسية للشخصيات الموجودة، فالصورة كانت اكثر تعبيرا من الكلمات في كثير من المشاهد ”كمشهد اعدام كارلوس لصديقه اللبناني الذي خانه، فالمشهد كان عاطفي للغاية خاصة بعد عودته لاضافة طلقة اخرى لم تكن ضرورية لكنها اظهرت مكنونية كارلوس التي تمقت الخيانة بكل انواعها“.
في النهاية انا اعتقد ان هذا المسلسل بكل ما حمله من ابعاد تاريخية سواء حقائق او احداث مشوقة فهو مجرد صفحة من الصراع العربي الصهيوني و مرحلة مهمة من الصدام الامريكي السفياتي و مجرد نضرة خاطفة على المتغيرات الاقليمية و رحلة في النفس البشرية الثائرة التي ضحت بحياتها من اجل قضايا مصيرية حملت على عاتقا آمال شعوب عريضة و غرست في نفوس اجيال مختلفة معنى التضحية و الايمان بالعدالة و الانسانية البحتة, فشكرا لصناع هذه الملحمة الدرامية الرائعة و شكرا لكارلوس الذي جعل حياته درسا لمن يعشق الحرية و يؤمن بالعدالة الاممية.