لابد أنه في يوم ما خلال محادثة ما عن التلفزيون و المسلسلات جاء ذكر مسلسل لم تسنح لك الفرصة في أن تشاهده بعد (سواء كنت تنوي مشاهدته أم لا), فينظر إليك مخاطبك بكل تعجب: ”ماذا؟ لم تشاهد غيم أوف ثرونز؟! هل كنت تعيش تحت صخرة طيلة السنوات الأربعة الماضية؟“.
أنت تعلم أنه لم يشاهد المسلسل سوى منذ أسبوع ولأنك شخص محترم تمتنع عن ذكر هذا في وجهه, ليس من شأنه ما إذا كنت شاهدت ذلك المسلسل الفلانيّ أو لا, و يفترض بك أن تعيش حياتك بشكل عاديّ بدون ان يتم ازعاجك في كل مرة تقول فيها أنك لم تشاهده.
يبدو وكأنه هناك بضعة أشخاص كل ما يفعلونه في الحياة هو: النوم, مشاهدة غيم اوف ثرونز, وحثك على مشاهدة غيم أوف ثرونز (و الاستمناء على مشاهد دينيريس, لكن تلك قصة ليوم أخر). أنت تدرك أنه مسلسل جيد, وأنت مدرك أن العالم كله يشاهده, وأن النقاد يمدحونه و لجان الجوائز ترشحه و تتوجه بالجوائز, لكنك بكل صراحة لا تشعر برغبة في مشاهدته الآن, الـ20 مسلسل الذين تشاهدهم الأن يسلونك بما فيه الكفاية, ثم إن لديك بضعة مسلسلات أخرى في مكتبتك أولى بمشاهدتها من شيء جديد.
هذه الحملة الشرسة لم تنجح في ارغامك على مشاهدة غيم اوف ثرونز, بل على العكس, لم تنجح سوى في تضئيل أي رغبة كات لديك في مشاهدته من الأساس, أنت تكره الستارك و اللي خلفوهم قبل أن تشاهد المسلسل حتى. أنت ترفض أن تنصاع و تكون خروفاً أخر ينضم إلى طائفة إله النور فقط لأن كل من حولك خرفان, أنت لا تريد أن تكون مجرد لبنة أخرى في الحائط.
هذا أمر مثير للاهتمام, لأنه في وقتنا هذا نحن, كمشاهدين, لدينا خيارات أكثر مما كانت لدى المشاهدين قبل عقدين من الزمن, قنوات أكثر, مسلسلات أكثر, برامج أكثر, فعلى العكس, لدينا أسباب أقل للتكتل حول مسلسل واحد أو إثنين, الطبيعيّ هو أن نكون مشتتين. إذا لماذا لدينا هذه الرغبة الجامحة بأن نتكتل حول مسلسل واحد؟
قبل غيم أوف ثرونز, و قبل كل الإتش بي أو-يات و الشوتايميات و الإي إم سيات, تجمعنا على بريزون بريك و لوست, لقد كان الجميع يخبرونك عن بريزون بريك و كم هو عبقريّ, و عن لوست وكم هو فريد من نوعه (في فترة عرض الإثنين كان هناك سوبرانوس و ذا واير), وكم كنا نستغرب أن هذه المسلسلات لا تنال أية جوائز في حفلات الإيمي بينما مسلسلات وممثلون لم يسمع بهم أحد يفوزون بكل الجوائز. وفور أن إنتهى بريزون بريك و لوست, تجمّعنا باحثين عن المسلسل الخرافيّ التالي, المسلسل الذي سنتجمع حوله, البعض ذهب إلى ديكستر, البعض الأخر إلى هيروز, ذا مينتاليست, غريز اناتومي, فرينج… الخ. ثم في 2011, جاء غيم أوف ثرونز, وبعد 10 حلقات فقط سالت فيها الدماء و تدحرجت فيها الرؤوس, أصبح هو المسلسل ”الذي يجب ان تشاهده“.
في تلك الفترة التي قضيناها نشاهد تلك المسلسلات, لم نكن مجرد مشاهدين وحسب, لقد تطورت علاقتنا بهذه المسلسلات من مجرد تسلية إلى علاقة حب, ونصبنا أنفسنا محامين عن مسلسلاتنا المفضلة. من جهة, يعود هذا الأمر إلى أن التلفاز في وقتنا هذا أفضل من أي وقت مضى, و يستحق حقاً هذا الحب الذي نكنه له. ومن جهة أخرى, لم نعد ملزمين بالجلوس أمام التلفاز لمشاهدة مسلسلنا المفضل, بمعنى أن مشاهدة المسلسلات أصبحت إختيارية, ولم نعد مجبرين على مشاهدة أياً كان ما يعرض على قنوات الإمبيسي (لأنه لا سمح الله, لو كان الامر لا يزال كذلك, لكنا كلنا نرشح حريم السلطان لجائزة أفضل مسلسل), وكذلك لأنه الآن مع التضخم الذي عرفه الانترنت و المنتديات و الشبكات الإجتماعية, هناك الكثير من المدح في الكثير من المسلسلات, فتضطر أنت بدورك إلى رفع صوتك فوق كل تلك الأصوات مادحاً في مسلسلك المفضل, ثم يتحول الأمر إلى منافسة. لا أتذكر حقاً أننا كنا نتناقش حول من هو أفضل ”الموت القادم إلى الشرق“ أم ”الجوارح“؟
بالعودة إلى الحديث عن بريزون بريك ولوست و غيم أوف ثرونز, بريزون بريك لم أشاهده إلا بعد انتهاءه, لوست هو الأخر إنتظرت اقتراب نهاية المسلسل لأشاهده وأنهيته مباشرة مع موعد عرض الحلقة الأخيرة, غيم أوف ثرونز لم أشاهد موسمه الأول إلا قبيل انطلاق موسمه الثاني, مقصدي هنا هو أن هذا — على الأرجح — ليس سوى رد فعل على ظاهرة التكتل هذه التي ترغمنا على تتويج مسلسل بلقب ”الأسطورة“ كل سنة. الامر برمته منافي للتوجه الحاليّ لعالم المسلسلات, الذي تفتت إلى عدة قنوات و شبكات بعد أن كان منحصراً على الرباعيّ (FOX, NBC, ABC, CBS), وأصبح عدد المسلسلات الجاهزة أمامنا أضعاف ما كان عليه قبل عقد من الزمن. بل في الواقع, يجب ان لا نتكتل, بل يجب أن نكون موزعين على أكبر عدد من المسلسلات.
لكن عندما تنظر للأمر من جهة أخرى, قد يكون هذا التكتل ليس سوى حنين إلى الماضي, حيث كنت تتوسل إلى والديك لكي تبقى مستيقظاً لوقت متأخر في ليلة مدرسية لكي تشاهد فيلم بروس لي المعروض هذه الليلة, ثم في الغد صباحاً يكون أول شيء تتكلم حوله هو كيف أن كل الصينيين متشابهون ذلك الفيلم. فبدل ذلك, نقوم بالتكتل حول مسلسل واحد لكي نستطيع التكلم حوله. لا نريد أن نعترف بأننا نفترق عن بعضنا البعض إلى طرق مختلفة, نريد أن نعتقد بأننا بشكل او بأخر نتجه إلى نفس الوجهة. لذلك لا يهم حقاً كم من شخص يشاهد ماد مين, المهم أن الجميع يتحدث حوله.
لا شك أنه بعد إنتهاء غيم أوف ثرونز بفترة قليلة سيظهر مسلسل أخر سيتكتل حوله الناس, سيكون المسلسل ”الذي يجب أن تشاهده“ التالي, وستتعالى الأصوات حوله بنفس قوة أصوات غيم أوف ثرونز… و في تلك الأثناء, سأكون أشاهد مسلسلاً كوميدياً نرويجياً و أتظاهر بأنني أفهم النكات وكأنني أشاهد ”أحلام أبو الهنا“.