ماد مِن مسلسل ممتاز. الجميع يعرف ذلك. إنه ذكيّ, أنيق, مضحك (أحياناً), حزين (معظم الوقت), و جذاب و… و… و… التمثيل فيه خرافيّ و به ربما أفضل كتابة على التلفزيون حالياً. لكنه أيضاً ممل, هل يحدث أي شيء حقاً في هذا المسلسل؟
لست أول من سيخبرك بهذا, الكثير ممن كانو متعودين على رتم المسلسلات السريع سيخبرونك بهذا, لربما صديقك انتهى للتوّ من Breaking Bad (الذي هو أبطئ من المعتاد, لكن مقارنة بماد مِن فهو نفاثة), و بعد مشاهدته لماد مِن جاء يقسم لك أنه المسلسل الأكثر مللاً في تاريخ التلفزيون. ماد مِن ليس أول مسلسل بطيء في تاريخ التلفاز, معلمة تلفزيونية أخرى أشتهرت ببطئها هي The Sopranos, و التي أشرف مؤلف ماد مِن ”مات واينر“ على كتابة جزء منها, خصوصاً في أخر موسمين (أي بوقت دخول ”مات واينر“ إلى طاقم المسلسل!).
في الحقيقة إن ذينك الموسمين الأخيرين من The Sopranos مشابهان جداً لـMad Men, و مشكلة عموم الناس مع الإثنين هي: كل تلك الرمزية و المعاني العميقة المبطنة ليست بديلاً لقصة مشوقة, مليئة بالأحداث أكثر من سرد بارد لملل الحياة (والذي لدينا الكثير منه في حياتنا الخاصة, لماذا سنقضي الساعات و نحن نشاهده؟!). أظن ما قلته لحد الساعة يدخل جداً في ما يمكن اعتباره كفراً و تجديفاً في ديانة التلفزيون, لكن اسمعوني اولاً.
لكن إن هذا الـ“لا-شيء-يحدث-حقاً“ هو ما يجعل ماد مِن و ذينك الموسمين من The Sopranos جيدين. قليلة هي المسلسلات (بل حتى الأفلام!) التي تملك قدراً من الشجاعة و الذكاء بما يكفي لتتحدث عن الدنيا و أكبر مشاكلها, لأنها جد معقدة و موحلة و مرعبة, ولهذا السبب معظم المسلسلات و الأفلام تتمحور أكثر حول ما هو ملموس, ولا عيب في ذلك, انظروا إلى The Wire مسلسل عظيم يتمحور حول ما هو ماهو ملموس و واقعيّ. لكن من جهة أخرى, يجب علينا بين الفينة و الاخرى طرح أسئلة حول معنى الحياة, وهو ما يفعله السوبرانوس و ماد مِن.
لنعد إلى ما قبل 1998, إلى ما قبل نتفليكس و الـBinge-Watching والبلوراي, إلى وقت كانت فيه HBO معروفة بإذاعة الأفلام, الملاكمة, و مسلسل كوميديّ حول 4 نساء في مانهاتن, من بطولة تلك الفتاة التي ظهرت في Ed Wood. في وقت كان فيه Hill Street Blues هو مقياس الجودة, حيث كانت مسلسلات مثل ER, NYPD Blue و Homicide: Life on the Street تعتبر مسلسلات رائعة و ”خنفشارية“. لقد كانت مسلسلات رائعة و ممتعة, لكن لا أحد تجرأ أن يقول أنها ”فن“.
طبعاً فيما بعد أتى The Sopranos وغيٍّر ذلك كله. لقد كان The Sopranos خلف نشر فكرة أن مسلسلاً تلفزيونياً يمكنه أن يقارن بأفضل ما في أي نوع من الفن, بإمكانك أن تقارن السوبرانوس بلوحة لرامبراند أو فان غوخ, أو صورة بالأبيض و الأسود لمصور شهير, أو منحوتة ما لميشل أنجلو, لأن العمق الذي رأيناه في The Sopranos يوازي عمق تلك الروائع.
لكن مع هذا التوجه الجديد, فإن التلفاز لم يستقطب فقط الفن, و إنما كذلك الجدل الذي يأتي معه.
هل نظرت مؤخراً إلى خبر من شاكلة ”بيع لوحة بـ874512 دولار“ ثم عندما تدخل إلى نص الخبر تجد لوحة بيضاء عليها 2 خطوط ثم تقول في نفسك ”هل هذه تستحق حقاً هذا المبلغ؟“ أو ”إن ابنتي تستطيع ان تصنع مثلها”. مشكلة الفن (أو ميزته) هو أن كل واحد منا يراه بطريقة مختلفة, فإذا كانت اللوحة بيضاء عليها خط أسود, فإن شخصاً ما سيرى فقط الجزء الأسود, وشخص أخر سيرى فقط الجزء الابيض, و شخص أخر سيرى الأبيض و الأسود, وكل واحد من هؤلاء الأشخاص سيخرج بخلاصة مختلفة حول اللوحة, و سيفسّرها بالطريقة التي تبدو منطقية له.
نعود إلى ماد مِن, لنأخذ على سبيل المثال, و بدون حرق, مشهد نهاية الموسم الاول, (دون دريبر) جالس على درج بيته و وجهه بين كفيه, إنه مشهد حزين. لكن ليس حزيناً مثل إنفصال ”مكدريمي“ عن ”ميريديث“ مثلاً أو مقتل شخصيتك المفضلة في مسلسلك المفضل, لكنه في نفس الوقت مشهد حزين سوداويّ كئيب, كباقي أفكار ماد مِن حول الهلاك و السقوط, حول الانحراف و الغفران. إن أفكار المسلسل ليست حكراً على عالم الدعاية في الستينات بنيويورك. فبينما نحن ننظر إلى (دون دريبر) مكتئباً في حفلة أو (جوان) تبحر في علاقاتها, ننظر أيضاً إلى صور للصراع الطبقيّ و التمرد العصبيّ, وإلى أطروحة منهجية حول النساء و الرجال و العمل.
كل هذه الثيمات تجدها, وأكثر, في كل حلقة من ماد مِن. و في غالب الأحيان, ينشغل الكتاب بما بين السطور لدرجة نسيان السطور ذاتها.
أنا لا أرى نفسي عبقرياً لإكتشافي كل هذا, لست أربت على كتفي و أصب لي قدحاً من ”الأولد فاشيند“, لست أظن أن أياً منا غبيّ جداً على ملاحظة كل هذه الأشياء. كل ما أردت أن أقوله هو أن ماد مِن ممل لأنه لا شيء يحدث فيه, لكن هذا لا يعني انه سيء, كل ما على المشاهد هو أن لا يركز كثيراً على الفراغ الأبيض, وإنما على الخط الأسود.