إنه العام 1986, و إذا كان هذا لا يذكرك بشيء, دعني أعطيك بعض التلميحات: كأس العالم؟ أول بلد عربي و إفريقي في الدور الثاني من كأس العالم؟ مارادونا؟ الأرجنتين ضد إنجلترا؟ ”يد الرب“؟ لا شيء؟ لا تقلق, حتى ولو كنت قد ولدت بعد 1986 بوقت طويل, ستنسجم في جوّ This Is England بكل سهولة.
تبدأ القصة بفيلم This Is England الذي صدر عام 2006 و الذي تدور أحداثه عام 1983 حول الفتى (شون) المضطرب ونشأته في إنجلترا. الأقدار والصدف تقود (شون) إلى لقاء مجموعة من الفوضويين المشاغبين في طريق عودته من المدرسة, و يصبحون أصدقاءه… بل أقرب إلى عائلته.
الفيلم مبنيّ على حياة و تجارب مخرج وكاتب الفيلم (شين ميدوز), الذي قدّم لنا عملاً إنسانياً بالغ الواقعية و الذي حرك فينا كل أنواع المشاعر, وحرك مشاعر النقاد و لجان الجوائز التي اغدقت عليه بالمديح و الجوائز. فاز الفيلم في سنة عرضه بجائزة أفضل فيلم مستقل في بريطانيا, و بعد سنتين فاز بأفضل فيلم بريطانيّ في الـBAFTA, وبعدها بسنتين, أنتج لنا (شين ميدوز) تحفة أخرى وهي مسلسل This Is England.
اننا نبحث دائماً عن الواقعية, أليس كذلك؟ إننا نريد أن يرفع أحد ما مرآة حياتنا إلى وجهنا, و نراها منعكسة كما عشناها: بحلوها و مرها, في الفرح و في الحزن, وفي كل ما بينهما. لكننا أيضاً (أو أنا على الأقل) نبحث عن ما يشابه حدثاً ثقافياً, شيء يتناول موضوعاً/شخصية/فترة معينة, وفي نفس الوقت يثير اهتمامك. (شين ميدوز) أعطاني هذا كله وأكثر, لقد أعطاني ”هذه إنجلترا”.
لقد كنت جمهوره المثاليّ: شاب في مقتبل العمر, لديه اهتمام بإنجلترا, يحب الموسيقى, و يؤمن أن لكل حقبة زمنية سحرها وأن ”أيام زمن“ ليست بالضرورة أفضل من ”الأيام دول“. تلك الثقافة و الموسيقى و الملابس جذبتني إلى This Is England, لكن ما حدث أمامي كان قصة لم أتوقعها أن تسير بهذه الطريقة. رؤية (شون), الذي قام بدوره الطفل (توماس) ببراعة يشهد له بها, وهو يلتقي بـ(وودي) وعصابته, و تقبّلهم و ضمهم له إلى مجموعتهم الصغيرة, شيء أثر في حقاً. تلك الشخصيات كانت واقعية, لقد بدت جد حقيقية, لقد كانت شخصيات تحس بها, شخصيات صادقة, حتى وإن كنت لا تتفق مع القرارات التي تتخذها و الأشياء التي تفعلها. الفضل في هذا يعود, معظمه, إلى الكاست الفريد و أداءه, كما يعود إلى This Is England ونوع القصة التي يحكيها. نعم, إنها نظرة للماضي, لكن بعد فترة, تنسى أنك تسترق النظر, فتسمح لنفسك بأن تذهب أبعد من مجرد استراق للنظر, ها انت تجلس معهم في سياراتهم, غرف نومهم و معيشتهم. ولفترة قصيرة جداً, تصبح واحداً منهم.
نادراً جداً ما تطابق التتمة مستوى العمل الأصليّ, ناهيك أن تفوقه. تقول المقولة أن ”البرق لا يضرب مرتين“, لكن (شين ميدوز) يصنع إستثناءاً لهذه المقولة, بحيث أنه فاق كل أمالي و توقعاتي, و خلق عملاً أكثر سوداوية و عمقاً وواقعية من الفيلم, لقد سمح لنا المسلسل أن نتعمق أكثر في حياة تلك الشخصيات التي أثارت اهتمامنا في الفيلم, و جعلنا نرى كل تلك ”الطبقات“ و التعقيدات التي تجعلهم ماهم عليه, ويضيف فوق ذلك شخصيات جديدة بنفس روح الشخصيات القديمة.
إن التلفزيون كان دائماً ينظر إليه, مقارنة بالسينما, على أنه عاجز عن تقديم أي شيء ذو قيمة فنية حقيقية, وإن جزءاً كبيراً من هذا يعود إلى برامج الواقع و إلى سعي القنوات والشبكات إلى تبسيط كل شيء لكي لا يضطر المشاهد إلى التفكير, مما ينتج عنه محتوى تافه وغبيّ, لكن This Is England يرينا ما تعجز عنه السينما و يجيده التلفزيون: منح القصة وقتاً لتتطوّر و تتخمر, وعندما يتوفر هذا الوقت, فإن الشخصيات تبدو لنا شفافة أكثر, بحيث نراها بكل زواياها وفي كل حالاتها, و نصادقها لفترة من الزمن ولا تتركنا مسرعة بعد ساعتين او ثلاثة.
إن (ميدوز) أخذ على عاتقه إثبات هذا, إنه مقتنع أن التلفزيون يمكنه أن يكون ”عميقاً“ مثل السينما, يمكنه أن يكون جيداً, أن يحرك فيك كل أنواع المشاعر, إن التلفزيون يمكنه أيضاً أن يكون نوعاً من الفن, وليست السينما أفضل منه بأي شكل, و إن أردتم رأيي الشخصيّ, فإن (ميدوز) نجح في ذلك بشكل كبير.
التقييم النهائيّ
الكتابة: | (ميدوز) يستدرجنا بالكوميديا و يصفعنا بعدها بالتراجيديا, وهذا ينم عن قدرة كتابية عالية | |
التمثيل: | يختار (ميدوز) دائماً الكاست المثاليّ للدور, ثم يخرج أفضل ما فيهم من وراء الكاميرا | |
الإخراج: | إن جودة الإخراج هنا تصل إلى مستوى لا نراه سوى في السينما وأثبت لنا أن التلفاز ليس أقل شأنا منها | |
رأي شخصي: | لقد أحببت هذا المسلسل بكل ما فيه, بلحظاته المضحكة و لحظاته المرة, وأنصح به بشدة | |
8.5 / 10 | إن هذا المسلسل سيختبرك, سيثير نفورك, سيغيظك, و بين الفينة و الاخرى, سيضحكك, لكن الأهم من هذا هو أنه سيتركك تفكر فيه لوقت طويل بينما شاشة الجينيريك تسير في طريقها المعتاد إلى أعلى الشاشة, لأنه هذه هي إنجلترا. |