“ The Corner “ أو الزاوية : هي مكان تذهب إليه إذا أردت أن تكون مَحطّ الأنظار ، هي مركز الأخبار ، مكان تعرف فيه من قتل البارحة ولماذا ومن الفاعل ؟ ، والأهم من كل هذا أنها سوق مفتوحة لبيع المخدّرات . كم هي نابضة بالحياة و النشاط والحركة الدائمة من جهة لكنها كذلك للمفارقة مكانٌ للموت ، سواء كان موتًا سريعا خاطفا بطلق ناري أو بطعنة غادرة أو موتا بطيئا جرّاء إدمان المخدّرات …
هكذا جاء عنوان المسلسل القصير ليختزل مجازيًا ومكانيًا مصدر و مسرح هذه الكارثة الإنسانية التي ضربت معظم المدن الامريكية الكبرى في مكان واحد هو “ زاوية الشارع “ أحياء بأكملها صارت أشبه بالمناطق المنكوبة ، يجد سكانها أنفسهم عالقين وسطها ، غارقين في أوبائها سواء كانوا مدمنين أو غير ذلك ، أحياء كانت قبل سنوات قليلة نابضة بالحياة متنوعة الأعراق قبل أن يهجرها أغلب سكانها من الطبقة المتوسّطة (بيض وسود) أولا ، ثم تبعهم كل من استطاع للهرب سبيلا ، لم يبقى فيها إلا المغلوبون على أمرهم ، الغارقون شاؤوا أم أبوا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في غيابات المخدّرات و تبعاتِها ، إنها مصيرٌ محتوم في غالب الأحيان ، لا ينجو منه إلا القليل …
توجد زاوية أو زوايا من هذا النوع في كل مدينة أمريكية تقريبًا ، أما زاويتنا التي تدور فيها أحداث مسلسلنا القصير فهي زواية في تقاطع شارعي (فاييت) و (مونرو) في مدينة بالتيمور ، أحداث حقيقية لشخصيات حقيقيّة خلال سنة من حياتها وسط هذه الفوضى و بالتحديد فقد تم التركيز على عائلة فقيرة من أب و أم منفصلان وإبن ومجموعة من الأصدقاء والجيران والمعارف وسكان المنطقة … إلخ ، يصارعون جميعا هذا الواقع المرير .
القصّة تناولها كتاب The Corner: A Year in the Life of an Inner-City Neighborhood لكاتبيه دايفيد سيمون صحفي سابق و إد بيرنز ضابط شرطة سابق عمل كلاهما في مدينة بالتيمور ، قبل أن يتحول الكتاب لمسلسل قصير من 6 حلقات من إنتاج قناة HBO سنة 2000 ، حيث أشرف على تحويله للتلفاز دايفيد سيمون و دايفيد ميلز وتولى الإخراج المبدع تشارلز.س. داتن …
مزج المسلسل بين صفات العمل التمثيلي الدرامي و الوثائقي وهو ما يطلق عليه إصطلاحا بـ “ docudrama “ أو الدراما الوثائقية ، هذه اللمسة الوثائقية تظهر في بداية كل حلقة بمحاورة المخرج تشارلز داتن لشخصية من الشخصيات الرئيسية في المسلسل في مشهد جانبي قبل أن تواصل هذه الشخصية حياتها اليوميّة ضمن أحداث المسلسل، كما أن هناك مشهد ختامي للمسلسل حيث يلتقي المخرج مع الشخصيات الحقيقيّة التي جسّدها العمل .
تميز المسلسل بواقعية شديدة في تجسيده الحياة في هذه الأحياء الفقيرة والمنكوبة حيث يُسيطر تجار المخدّرات على الوضع و يتصرفون بحرية شبه مطلقة ، دور الشرطة ضعيف وغائب معظم الوقت وبعيد تماما عن معالجة المشاكل الحقيقية ، تنتهج في عملها سبيل الإعتقالات التعسفية و مضايقة المدمنين المغلوبين على أمرهم و صغار التجار و ذوي الأدوار الثانوية بعيدا عن الرؤوس الكبيرة والتي نادرا ما تصل لها يد القانون ، كذلك تجلت واقعية المسلسل في إبرازه الحياة اليومية القاتمة للمدمنين وكيف يتمحور جهد يومهم في الحصول على المال لشراء جرعتهم اليوميّة من المخدّرات وسبيلهم في ذلك : الإحتيال و السرقة ، جمع المعادن بمختلف أشكالها و بأي طريقة و بيعها ، فيما يحاول القليل منهم البحث عن وظائف بعيدا عن مكان عيشهم توفر لهم دخل يمكنهم من إشباع هذا الإدمان ، لايوجد رادع لهؤلاء في سبيل تحقيق غايتهم سواء كان رادعًا أخلاقيا أو قانونيا أو دينيا . لا شيء يقف بين المدمن وبين حصوله على جرعته . إنها حياة صعبة قاتمة ومعاناة مستمرة وانهيار شبه تام لكل مظاهر التحضّر و الآدمية أحيانًا رغم كل هذا يحاول البعض منهم الإحتفاظ عبثًا بمعنى لحياتهم ، بين هؤلاء مَن لم يستسلم كليّة ، تجده يحاول النجاة من هذه الحياة و التخلص من إدمانه ، لكن من ينجح منهم في ذلك يواجه واقعا لربما هو أصعب “ هل مواجهة أعباء الحياة النظيفة أهون من الحياة تحت رحمة الإدمان “ ؟
العمل لامس بُعدا عاطفيا عميقا لدى هؤلاء المدمنين بخلاف أعمال كثيرة تناولت هذا الموضوع بشكل سطحي أو ضمن سياق مختلف ، كما أن مَشاهد “ الفلاش باك “ لهذه الشخصيات زادت العمل قوة و تأثيرا ، حين تشاهد لمحات من ماضي هؤلاء وكيف كانت حياتهم قبل الإدمان تحس فعلا با القوّة التدميريّة لهذه الآفة وأثرها الشامل الذي تتركه على المدمن وعلى محيطه …
مظاهر أخرى من هذه البيئة الصادمة بمختلف فئاتها تناولها المسلسل بواقعية شديدة دون تحيز ولا تبرير أو تجميل “ الواقع كما هو “ ، رغم كل هذه السوداوية و القتامة إلا أنك تجد نفسك مشدودا لمتابعة العمل حلقة بعد الأخرى .
من مميزات العمل كذلك هو الأداء القوي لمجموعة من الممثلين جسّدوا أدوارهم باقتدار، لعل خاندي ألكسندر ( فران) كانت الأكثر إبداعًا و إقناعًا بين طاقم الممثلين حيث مزجت بين تجسيد دورها كأم لولدين وبين كونها مدمنة مخدّرات ، كارتر تي كاي ( غاري) كذلك أبدع في تجسيد دور المدمن اليائس و العاجز عن مصارعة إدمانه واسترجاع حياة و مسيرة ناجحة من فك الإدمان الذي لا يرحم ، سين نيلسون ممثل دور(دياندري) أدى دوره بكفاءة ، لكنه قد يكون الحلقة الأضعف ، ففي العديد من المشاهد كانت له ردة فعله باردة وبليدة بعض الشيئ ولم يظهر التفاعل المطلوب في تلك المواقف ، باقي الممثلين كذلك أبدعوا في ادوارهم و في المُجمل فإن العمل لقي نقدا إيجابيا على أداء طاقمه التمثيلي واعتُبر هذا الأمر من أبرز نقاط القوة فيه . إضافة لذلك فقد شاهدنا مشاركة بعض الشخصيات الحقيقية التي تناولها الكتاب في العمل كـ كومبارس في مشاهد عابرة وللمفارقة فكل واحد من هؤلاء تقاسم مشهدًا مع الممثل الذي لعب دوره في المسلسل !!
علاقة المسلسل القصير بـ The Wire
المسلسل القصير The Corner تم إنتاجه سنة 2000 بينما رأى The Wire النور سنة 2002 وكلاهما من إنتاج قناة HBO ، ولا يوجد أي ارتباط من حيث الأحداث أو القصة بين العملين . إن كان دايفيد سيمون وإد بيرنز تشاركا في تأليف الكتاب الذي استمد منه المسلسل القصير إلا أنهما لم يجتمعا في تحويله للتلفاز ، بخلاف The Wire حيث اجتمعا في كتابة حلقات المسلسل المشهور ، كذلك فإن العديد من الممثلين الذين شاركوا في المسلسل القصير ظهروا لاحقا في الواير بأدوار مختلفة ..
تقاسّم العملان بعض الخصائص و المميزات ، و المشاهد لهما يلمس بعض التشابه ، و لعل أبرز أوجه هذا التشابه هو أن كلا المسلسلين دارت أحداثه في نفس البيئة و الخلفية ( مدينة بالتيمور) ، أيضا الواقعية الشديدة في تناول الأحداث و إسقاطاتها إلى جانب قوة المضمون و إبداع طاقم التمثيل ، بداية كل حلقة من العملين باقتباس على الشاشة من حوار لأحد الشخصيات ، الإهتمام بأدق التفاصيل و القدرة على جعل المشاهد ينجذب إلى كل شخصية مهما كانت مُستهجنة التصرفات ، وبطبيعة الحال المسلسل القصير ليس بروعة ولا قوة الواير لكن ما يمكن قوله أن The Corner هو بذرة من البذرات الأولى للمسلسل المشهور The Wire ..
الجوائز و الترشيحات التي حصل عليها المسلسل
رُشّح المسلسل أربع مرات لجائزة الإيمي في حفلها الـ 52 (سبتمبر من عام 2000 ) عن الفئات التالية :
– أفضل طاقم في مسلسل قصير ، فلم تلفزي أو عرض خاص (إكتفى بشرف الترشيح)
– أفضل إخراج في فئة المسلسل القصير أو الفلم التلفزي أو العرض الخاص ( فاز بالجائزة مخرج المسلسل تشارلز.س.داتن )
– أفضل نص في فئة المسلسل القصير ، الفلم التلزفي والعرض الخاص (إكتفى بشرف الترشيح)
– أفضل مسلسل قصير (إكتفى بشرف الترشيح)
التقييم النهائيّ
الكتابة: | ||
التمثيل: | ||
الإخراج: | ||
رأي شخصي: | ||
8.5 / 10 | الواقعية الممتازة في طريقة الطرح، والدراما السوداء المميزة تجعله واحد من أفضل المسلسلات القصيرة ربما على الإطلاق، يستحق المشاهدة بالطبع |