صيف سنة 1990, ظهر مسلسل من ثمانية حلقات يدور في ألاسكا على شاشة CBS. إنتهى بالسرعة التي أتى بها, و ترك المشاهدين يحكّون رأسهم متسائلين ”ماذا كان هذا بحق الجحيم؟”. في الربيع التالي, ظهر موسم ثاني من سبعة حلقات. ثم أنذاك, بدأ الناس ينجذبون لـ“تعرّض شماليّ”, هذا المسلسل الغريب الذي يدور حول طبيب عالق في مكان ما في مؤخرة العالم و الذي يقع في ولاية ألاسكا, نعم, ذلك الجزء المتجمد من أمريكا. لكن لم يكن المشاهدون فقط من انجذبو لهذا المسلسل, بل حتى النقاد, وهكذا إنضمّ Northern Exposure إلى الجدول الخريفيّ موسم 1991, ليستمر عرضه مدة أربع مواسم أخرى.
القصة
الدكتور ”جوِل فلايشمان“ (لعب دوره ”روب مورو”, بطل المسلسل الشهير NUMB3RS) يظن أنه على قمة العالم. تخرّج لتوّه من كلية الطب, خطيبته تدرس في كلية الحقوق, و (جوِل) على متن طائرة متوجهة إلى بلدة ”انكوريج“ في ألاسكا. رغم أنه يهوديّ من نيويورك, إلا أنه لم يكن قادراً على تحمل نفقة دراسته, لذلك حصل على منحة دراسية شملت كل النفقات (حواليّ 125 ألف دولار) مقابل 4 سنوات من الخدمة الطبية في ”أنكوريج“. لكن (جوِل) لم يقرأ الكلام المكتوب بخط صغير على عقده, و الذي يفيد أنه بالإمكان أن يتم إرساله إلى أي مكان في ألاسكا. لا, لا يتعلق الأمر بالإسكيمو 🙂 , بل ببلدة ”سيسلي“ الصغيرة. ”سيسلي“ توصف بأنها ”على أعتاب النهر الألاسكيّ“, لكنها حسب (جوِل), ”تقع مابين نهاية السطر و وسط اللامكان”.
وبهذا تبدأ ”أوديسة“ الدكتور الشاب (فلايشمان), ومعاناته ومحاولته لتقبّل العبودية التي فرضت عليه, و محاولة عيشه في بؤرة الفوضى, ”سيسلي“.
الرأي
قبل أن أبدأ في الحديث عن المسلسل ورأيي فيه, أريد أن أذكر ان المسلسل تم تصنيفه 52 في قائمة أفضل 101 مسلسل كتابةً, أي أنه وقبل كل شيء, أفضل من نصف ما يوجد في هاته القائمة, و أفضل من نصف ما تشاهده حالياً! المسلسل أيضاً فاز بإيمي و إثنين غولدن غلوب في فئة أفضل مسلسل, بجانب دزينة من الجوائز و الترشيحات في فئات وجوائز أخرى.
لكن ما يهم في المسلسل ليس الجوائز, بل الفكرة. المسلسل يقوم على مسألة ”السمكة خارج الماء“, حيث تصبح الشخصية الرئيسية خارج ”منطقة راحتها“, (جوِل فلايشمان) ينتقل من ترف و حضارة نيويورك إلى مكان, لنقل, رجعيّ بعض الشيء, إن لم نقل, تنعدم فيه الحضارة.
Northern Exposure أو ”تعرّض شماليّ“ (الذي سأشير له بـNE إبتداءاً من هذه النقطة) جمع مابين فكاهة الكوميديا الرومنسية, سحر الافلام المستقلة, و النظرة المعتادة نحو المدن الصغيرة و سكانها الغريبي الأطوار و طريقة عيشهم.
رغم أن المسلسل ألّفه كل من (براند) و (جون فالسي), اللذان تسلما جائزة الإيمي عن المسلسل سنة 1992, إلا أنه اشتهر بفضل وجود (ديفيد تشايس) الرائع (مؤلف السوبرانوس) كمسؤول عن المسلسل — Showrunner — للموسمين الأخيرين من المسلسل, و قد عمل مع عدة كتاب (معظمهم عملو معه في وقت لاحق في السوبرانوس) طوال فترة إشرافه على المسلسل.
كون المسلسل أتى من إبداع (براد) و (جون فالسي), مؤلفا St. Elsewhere (مسلسل أخر لم تسمع به 🙂 ), يعطينا إشارة أن هذا المسلسل لن يكون بالظبط جد واقعيّ. إن NE إنتقل مابين الدراما الثقيلة و النكتة, الكوميديا الرومنسية, الميول السياسية, المرثاة, و الكوميديا التهريجية بشكل سلس للغاية, الكتاب كانو يكتبون عن الأشياء التي تأتي ببالهم, مهما كان نوعها. قد تكون بلدة Eureka معروفة بغرابتها, لكن عالم ”سيسلي“ غامض و غريب, حيث كل شيء ممكن أن — وسوف — يحدث.
المسلسل تميّز بشيئين: أشخاص عاديون في مواقف مجنونة, أو أشخاص مجانين (المتمثلة في شخصين: أدم و إيف) في مواقف عادية. إذا أردت أن أصف (أدم) و (إيف), سيصعب عليّ ذلك, لكن سأحاول. (أدم) عميل CIA سابق على حافة الجنون تحوّل إلى طاهِ, أما (إيف) فهي زوجته المجنونة المصابة بوسواس المرض. ما درجة جنون هذين الإثنين؟ في إحدى الحلقات, قامت (إيف) بتكبيل (جوِل) و إحتجازه كسجين ليهتم بإحتياجاتها الطبية. أما علاقة هذين الإثنين؟ أشبه بـ(كرستينا يانغ) و (بريستون بورك) من ”غريز اناتومي“… لكن مع نفحة كبيرة من الميث وبعض الهيروين. (هذا أفضل وصف إستطعت ان اصل إليه, هذين الإثنين لا يوجد وصف لهما!) ظهورهما دائماً ما يسبب فوضى عارمة, ترتد في نهاية الأمر, بطريقة ما, على (جوِل).
بشكل عام, المسلسل يدور حول الهوية. إنها السمة التي تظهر, تقريباً, في كل الحلقات و على كل الشخصيات. (موريس مينيفيلد), عسكريّ و رائد فضاء سابق يحاول بشدة أن يُشهِر بلدة ”سيسلي“, لكن رغم ثروته الكثيرة, يشعر بالفراغ لعدم وجود إبن يرث ثروته هاته, هذا الأمر يتم التطرق له في الموسم الثالث في إحدى أفضل حلقات المسلسل, حلقة Seoul Mates.
(هولينغ فينكور) هو الأخر لديه مشاكل في الهوية. صائد حيوانات سابق إعتزل الصيد ليقوم بالتصوير, لكن بسبب حبه للصيد, ينصب كاميرته على بندقية, وهذه ”حاجة خنفشارية!“. لكن بشكل أخر, (هولينغ) يحاول أن يهرب من هويته, إذ ينحدر من عائلة فرنسية نبيلة, نبيلة لكن ذات سمعة سيئة, سيئة بشكل سيء للغاية. لكنه الآن يقوم بإدارة حانته الخاصة, ”ذا بريك“ (أو ”اللبُنة“), و استطاع ان يوقع ملكة جمال في الـ18 من عمرها في غرامه!
يمكن أن يقال أن (هولينغ) و (موريس) هما أعمدة ”سيسلي“, و قد استفاد المسلسل بشكل كبير من تواجد ممثلين رائعين في هذين الدورين الثانويين. شخصية (موريس) من تمثيل شخص أخر غير (باري كوربين) كانت لتكون لا تحتمل, لكن (كوربين) يعطينا نظرة عميقة إلى دواخل الشخصية (والتي تكون غالباً… لا تحتمل 🙂 ) الطيبة و الحنونة. بينما أيقونة برودواي (جون كولوم) في دور (هولينغ) وخبرته في المسرح تعطيه القدرة على إنجاح أي مشهد كان, سواء كان مشهدا رومنسياً مع (شيلي) أو علاقته الغامضة مع ”جيسي“, الدب الضخم الذي كاد ان يقتله. وهذين الممثلين يعملان معاً بشكل رائع معاً.
(كريس ستيفنز) الذي يلعب دوره (جون كوربيت) هو مجرم سابق من ولاية فرجينيا الغربية, يقضي أيامه حالياً يستمع للموسيقى و يبحث عن معنى الحياة, وأحب بشكل خاص تعليقاته التي تكون وسط الحلقة على طريقة ”غريز اناتومي“. يكتشف (ستيفنز) في نهاية الموسم الاول شيئاً مهما عن عائلته, الأمر الذي يفتح له مجالاً كبيراً ليكتشفه عن هويته, هذا الإكتشاف يجعله يدرك أن شخصين يمكنهما أن يكونا متشابهين كلياً من الداخل, لكن مختلفين كلياً من الخارج.
شخصيتي المفضلة في المسلسل, (إد) الذي يلعب دوره (دارين إ. بوروز) مراهق يعمل لدى (موريس), ذو أصول هندية. تم هجره في طفولته و تربى في قبيلة هندية. طيب لكن تعوزه اللباقة نوعاً ما, وكل ما يعرفه عن العالم يستنبطه من الأفلام. صديق بالمراسة مع (وودي ألن), (مارتن سكورسيسي) و (ستيفن سبيلبيرغ), و يتمنى أن يصبح مخرجاً هو الأخر.
(شيلي تامبو) كانت مشجعة في المدرسة الثانوية عندما عثر عليها (موريس) في منافسة ملكة جمال ”الممر الشمالي الغربي“ الذي فازت به, و عاد بها إلى ”سيسلي“, إلا أن (شيلي) وقعت في غرام (هولينغ). تقوم الآن بمساعدة (هولينغ) في الحانة, لا تمانع كلياً العيش مع رجل يكبرها بثلاثة مرات. (كل هذا مجرد قصة خلفية, قصص تساهم في نحت هذه الشخصيات). شخصية (شيلي) تجعلك تدرك مدى جودة الكتابة في NE. فشخصيتها في الأساس مكتوبة على أنها مراهقة, لكن واقعة في الحب… بجنون. لذلك سيكون من السهل جعل شخصيتها ”تنضج“ قليلاً لتقليص الفارق العمريّ, بدل ذلك, يقوم الكتاب بجعل شخصية (هولينغ) طويلة العمر, جداً, لدرجة أن (هولينغ), و هو في الستينيات من عمره, يخشى أن يعيش أكثر منها, ويضطر أن يقضي بقية حياته يرثى لها.
بإختصار, ”سيسلي“ تدور حول العيش في الحاضر و إكتشاف هويتك. الحلقة الختامية للموسم الثالث, بعنوان Cicely, التي أغدقت بالمديح و انهالت عليها الجوائز, تحكي لنا قصة إمرأتين واقعتين في الحب, تبحثان عن مكان يمكنهن أن ينتمين إليه, الأمر الذي نشأ عنه ذلك الجوّ الروحيّ الذي ساهم في إنشاء هذه البلدة. وفي هذا الجوّ يتعثر الدكتور (فلايشمان).
في بداية المسلسل, عندما يصل (جوِل), يتم تجريده من كل شيء يعرفه, و (حسب منظوره) تم الحكم عليه بما وصفه… ”العمل في معسكر عمل قسريّ كئيب“. كل خططه للسنوات الأربعة القادمة إندثرت, وكل ما تبقى له هو ذاته, طبيب يهوديّ من نيويورك, و سوف يقاتل حتى أخر رمق للحفاظ على ذاته تلك من الإندثار. يسأله الناس دائماً لماذا يعجز عن الإسترخاء و الإستمتاع بالجمال الذي يحيط به. السبب بسيط: يخشى على نفسه من فقدان ذاته وسط كل هذا. إنه اليهوديّ الوحيد في هذه البقعة المتجمدة من الأرض, ولا يمكنه أن يحصل على قطعة واحدة من كعك البيغل بدون أن يتم شحنها له في صندوق مكتوب عليه أنه يحتوي معدات طبية! كل ما يمكنه أن يفعله هو أن يستجمع كل ذرة من ذاته و يتمسك بالحياة.
بعد ذلك, يتمحور المسلسل حول (جوِل) وتعلّمه انه يمكنه أن ينفتح أكثر, للطبيعة, للناس حوله, للثقافات الأخرى, بدون أن يفقد ذاته. ليدرك أن ذاته ليست سوى درع يحتمي به, أكثر منها هوية. يلعب المسلسل على هذا المثال بطرق عدة, سواء (بطريقة فكاهية) في أحلام (جوِل) في حلقة من الموسم الثالث, حيث يحلم (جوِل) بلقاء توأمه الشرير, و يقوم بمحادثة مطولة مع ”سيغموند فرويد“ 🙂 (قلنا لكم في بداية المقال: المسلسل لن يكون جد واقعيّ, لكن لا تدققو في الامر كثيراً, أحلام المسلسل دائماً ما تكون مبهجة و مضحكة), أو سواء (بطريقة رفيعة) في حلقة من الموسم الرابع, حيث يبحث (جوِل) بشكل بائس عن 10 أشخاص يهوديين لتلاوة دعاء ما على عمّه الميت.
ومن جانب أخر من ذات الموضوع, علاقة الحب و الكره بينه و بين الطيّارة (ماغي أوكونل), وهي علاقة منقطية تماماً: هي على النقيض تماماً منه. (ماغي) تنحدر من عائلة غنية من ”ميشيغان“, لكنها رفضت تلك الحياة كلياً لتستقل بنفسها. بدأت حياتها كغريبة في ”سيسلي“ مثل (جوِل), لكنها ”إعتنقت“ جوّ البلدة. لكن (ماغي) ليست مثالية كما يبدو لكم, فإن لديها مشكلة كونية معينة عندما يتعلق العمر بالأخلاء و العشاق, كل من يدخل معها في علاقة يموت… بشكل غريب. عامل الموت (أو قبلة الموت) تضيف بُعداً أخر من التوتر لعلاقة (ماغي) & (جوِل), هل يجب عليها ان لا تدخل في علاقة معه لكي لا يموت, أم يجب أن تدخل في علاقة معه لأنها تريده أن يموت؟
المناظر الطبيعية خلابة في المسلسل, من المؤسف أن المسلسل غير متوفر على اشرطة البلوراي, المناظر الطبيعية كانت لتبدو مذهلة على شاشة كبيرة, الجبال و الغابات و الأنهار. كذلك الموسيقى, الموسيقى مذهلة للغاية, وحسب ما قرأت فإن المسلسل فقد الكثير من الموسيقى الرائعة عند نقله إلى الديفيدي بسبب الحقوق الفكرية أنذاك إبان ظهور أشرطة الديفيدي, إذ كانت شركات الموسيقى تطلب مبالغ فلكية لقاء منح الحقوق النشر, الموسم الاول بلغ ثمن شريطه 60 دولار, لموسم متكون من ستة حلقات, بسبب حقوق النشر. لذلك إضطرت CBS لإستبدال الكثير من الأغاني لتخفيض ثمن الشريط و إرضاء العشاق. لكن رغم ذلك يظهر بشكل جليّ أن المنتجين قضو وقتاً طويلاً في إنتقاء الموسيقى المناسبة لكل مشهد, وخرجو بمجموعة رائعة من الموسيقى.
الخلاصة
Northern Exposure مسلسل كلاسيكيّ رائع, مختلف كلياً عن ما قد تراه في التلفزيون هذه الأيام, لدرجة أنه لو قام (ديفيد تشايس) بعرض المسلسل على CBS في هذه الأيام لقالت له: ”دكتور في ألاسكا؟ امممممممممممممم…. ما رأيك في CSI: Cicely؟“ 🙂
الموسم الأول عرّفنا على الشخصيات و أعطانا أساساً للقصة, الموسم الثاني تستكشف الشخصيات ذاتها أكثر ويصبح لدينا أساس صلب, الموسم الثالث ينطلق المسلسل ولا يتوقف إلا عندما ينتهي المسلسل بعد ثلاثة مواسم.
التقييم النهائيّ
الكتابة: | ||
التمثيل: | ||
الإخراج: | ||
رأي شخصي: | ||
8.25 / 10 | عنوان المقال أتى من خطاب تسلّم منتج المسلسل جائزة أفضل مسلسل دراميّ سنة 1992 حيث قال في خطابه "شكراً لكم على الجائزة, لكنه مسلسل كوميديّ" |