مقالي متأخر (وطويل جداً!), أعلم ذلك, The Leftovers إنتهى في سبتمبر و Rectify قبله في أغسطس, لكنني لم أشأ أن أختتم السنة إلا وقد قلت رأيي في هذه النازلة: Rectify نجح حيث فشل The Leftovers, كيف ذلك؟
لنتحدث عن The Leftovers, الذي أزعجني أكثر شيء فيه هو أن أي شخص أساله ”ما الذي فهمته من المسلسل؟“ يجيبني ”لا أعلم“ أو ”لا شيء“, لكنه يصرّ في نفس الوقت أنه أعجبه!
العالم الذي خلقه الأقرع الغبيّ (دايمون ليندلوف) من رواية (توم بيروتا) في The Leftovers كئيب و محبط, و لم ينجح سوى في شيء واحد (والذي, بشكل غريب, أصبح الطريقة الوحيدة لنجاح مسلسل ما هذه الأيام): لقد جعل الكثير من الناس يتحدثون حوله و يكتبون الكثير من المقالات التحليلية و التغريدات الانبطاحية, لدرجة أنه حتى بعد مرور اكثر من 3 أشهر على انتهاءه, لا أزال أريد الكتابة عنه.
بين مؤيدي و معارضي المسلسل أظن أن هناك اتفاقاً حول التالي: The Leftovers عبارة عن دراسة في الكآبة. التمثيل ممتاز. القصة (حتى لمن قرأوا الرواية) فكرة متخيلة جميلة و غريبة حول ما قد يفعله البعض منا إذا ما اختفى 2 في المئة من البشرية فجأة دفعة واحدة في حدث يدعى ”الرحيل المفاجئ“ فيما يشابه المفهوم الإنجيليّ للإختطاف. فبدل أن يحل الخراب و الدمار و الكوارث على الأرض, يحل حزن و أسى دائمان وخوف مضطرب.
عندما قمت بكتابة مقالة حول رأيي في بايلوت المسلسل في يوليو المنصرم, قلت أن هذا ”المنظور“, الكئيب ,“قد لا يروق للجميع“. ومع كل حلقة تعرض من المسلسل, أحس برغبة في أن أقول لمتابعي المسلسل أنه لابأس ان يتركوه إذا كان لا يفعل أي شيء لهم سوى تحييرهم و إحباطههم. بطبيعة الحال, لم أفعل هذا, إن مهمتي هنا هي اخبار الناس بما يعرض على التلفاز و رأيي فيه, المشاهد قادر على اتخاذ قرارات بالمشاهدة و التوقف عن المشاهدة لوحده, لكنني بدل ذلك عبرت عن امتعاضي من بعض جوانب المسلسل على حسابي الشخصي في تويتر, وهذه بعض الأسباب التي تبرر إعفائي الناس من عبء مشاهدة The Leftovers:
أتقبل The Leftovers كنص أدبيّ, لكن ليس كمسلسل.
هذا ليس هو النقاش البيزنطيّ ”من أفضل: الرواية أم إقتباس الرواية؟“ و الذي تفوز فيه الرواية دوماً. على الورق, فكرة وجود طائفة تدعى ”المذنبون الباقون“ اتخذت نذر صمت كردة فعل على ”الرحيل المفاجئ“, اختار اعضاءها التعبير عن أنفسهم رمزياً (ملابس بيضاء, تدخين السجائر), بدت قابلة للتصديق أكثر. حتى طائفة ”القديس (واين)“ بدت قابلة للتصديق. بكتابته الساخرة و المباشرة, إستطاع (بيروتا) تقديم هذه المجتمعات كردة فعل غريبة لكن منطقية. بطريقة تجعلك تفكر ”أود أن أشاهد فيلماً حول هذا“ وليس ”أود أن أرى هذا بشكل كئيب أكثر, محيّر أكثر, و دمويّ اكثر“.
إن فعل وضع رواية كـThe Leftovers بين يديّ شخص كـ(ليندلوف) هو فعل غبيّ, إذ أنه برؤيته الكالحة و المروّعة للرواية حوّل فكرتها الرئيسية إلى شيء هذيانيّ, مبالغ فيه, وغير قابل للتصديق
إنتهاك السردية. (وأيضاً: إنتهاك الرمزية)
هذه من حركات (ليندلوف) من أيام Lost. ما هو الواقع؟ ماهو الخيال؟ هل الشخصية تحلم؟ هل الشخصية تتذكر؟ هل حدث هذا الآن؟ هل حدث هذا لاحقاً؟ هل حدث هذا سابقاً؟ ما الذي حدث للتو بحق الجحيم؟ هل سيكون لهذا معنى لاحقاً؟ ألا يجب أن تخبر الشخصيات بعضها البعض ما الذي حدث للتو؟ أليست هذه هي الطريقة ليفهم كل واحد منها الأخر؟ لماذا لا يفعلون ذلك؟
”تكلمي!“ كتبت الشابة النكدة (جيل غارفي) على سبورة لأمها (لوري) الخرساء إختيارياً. نعم, فكرة ممتازة, لنعطي (ليندلوف) قصة فيها عدد غير هين من الشخصيات اتخذت نذراً, مزعجاً و مضجراً, بالصمت!
أليس ممتعاً أن تحاول فهم الاشياء بينما تحاول مشاهدة الحلقة مع شعور متزايد باللاجدوى أسبوعاً بعد أسبوع؟ الجواب هو لا, بإستثناء ما إذا كنت سادياً لعيناً تحب تعذيب نفسك أو مشجعاً لليفربول. لا متعة في أن تضطر إلى بذل مجهود إضافيّ كل أسبوع لكي تفهم مسلسل حذرنا مؤلفوه بالفعل بأن لا نتوقع تفسيراً للّغز الذي يتمحور حوله. المشاهد يحب قصص الغموض و المحاور السردية التي تؤدي إلى أجوبة. لا أريد أن أضطر إلى البحث في جوجل عن عدد ما من مجلة ناشيونال جيوغرافيك على أمل أن افهم شيئاً, لأنه عند ذلك يصبح واجباً منزلياً وليس مسلسلاً.
يصعب الاكتراث لهذه الشخصيات
لماذا بلدة ”مايبلتن“ تبدو مهزوزة أكثر من بقية العالم بعد مرور ثلاثة سنوات على ”الرحيل المفاجئ“؟ لماذا لا يستطيع سكان هذه البلدة أن يجمعوا شتات انفسهم؟ يُمدح المسلسل لتصويره الواقعيّ للكآبة, خصوصاً عجز المرء في وجه الكأبة و الحزن الذي لا ينجلي. أحب هذا النوع من الكتابة و أتفق معه, لكن من الصعب أن تقنع الكثير من الناس بأن يشاهدو المسلسل لأجل هذا وحسب.
في الحلقة التاسعة, كوفئ المشاهدون أخيراً لصمودهم الطويل بحلقة عادت بالزمن ثلاثة سنوات للوراء إلى ما حدث في يوم 14 أكتوبر المشؤوم ذاك, و أرتنا أين كانت تلك الشخصيات وماذا كانت تفعل عندما حدث ”الاختفاء المفاجئ“. لقد جعلتني تلك الحلقة أدرك مقدار يأسي لكي أملئ تلك الفراغات و أجيب عن بعض التساؤلات. وكأن أحداً ما دخل غرفة الكتاب ذات يوم و أعلن أنه, ولمرة واحدة على الأقل, سنعطي المشاهد المسكين بعض الحقائق بدل ان نتركه يتسائل عما حدث.
ثم بعدها بأسبوع واحد, في الحلقة الختامية, عدنا إلى الهلوسات و الرياء (مع نسخة ”نينا سيمون“ من رائعة ”جاك بريل“ الفرنسية الخالدة Ne Me Quitte Pas تعزف في الخلفية, بينما تسيل دماء شخصية ذبحت نفسها, في مشهد لا هو فنيّ أو مثير للاهتمام). الأمر الذي يعيدني لسؤال المشاهد ”ما الذي فهمته من المسلسل؟“, و أضيف عليه سؤالاً اخر: ”كيف تستمتع بهذا المسلسل وأنت لا تفهم أي شيء منه؟“ أو ”كيف يعقل أن يكون أفضل مسلسل هذا الصيف هو أسوءهم؟“.
بعد هذه الحلقة, كنت أناقش مع نفسي مشاهدة الموسم الثاني من عدمه, لكن عندما سمعت أن (ليندلوف) يخطط للتخلي عن معظم الشخصيات الثانوية و نقل المسلسل إلى نيويورك, الامر الذي يعني قصة جديدة كلياً, قررت أن أوفر على نفسي العذاب و أسقط The Leftovers من جدول مشاهداتي للأبد للأسباب المذكورة أعلاه.
Rectify نجح حيث فشل The Leftovers
مسلسل قناة صندانس Rectify (بالعربية: تصويب) يتعامل مع تبعات كارثة من نوع شخصيّ أكثر, كارثة كادت تدمر مجتمع بلدة بأكمله و عائلات تعيش فيه. في بايلوت Rectify, يُطلق سراح (دانييل هولدن) المحكوم عليه بالإعدام لجريمة حدثت قبل 20 سنة (كما أن قضيته لم تنتهي بعد, بل لا زالت مستمرة على مدار موسميّ المسلسل). المسلسل اجاب عن بعض الأسئلة حول ما فعله (هولدن) أو لم يفعله في الليلة التي ماتت فيها فتاة, لكن رغم ذلك لا يزال يلف المسلسل الكثير من الغموض.
لا Rectify ولا The Leftovers لديه أي إهتمام بالقصة, وهو أمر يناسبهما. كلاهما دراسة حول ما قد يفعله (أو لا يفعله) الناس لتجاوز المحن, وكيف تشكل المأسي الناس و تغيّرهم. الدراسة النفسية هي هدف هذين المسلسلين, تغطية أكبر مساحة ممكنة من الجانب النفسي للشخصيات لكن بدون هدف تتجه نحوه القصة.
الصيف كان مناسباً لهذين المسلسلين, لأنهما كأيام الصيف: مجموعة من الاحداث التافهة مع قليل من الأحداث الكبيرة. لكن السؤال هنا: لماذا المسلسل حول ذلك الشخص الذي كان محكوماً عليه بالإعدام و الذي قد يعود للسجن أفضل من المسلسل الذي اختفى فيه الكثير من الناس؟
باختصار: الفضول و التفصيل. Rectify يريدنا أن نعرف كل شيء حول شخصياته. فيحلل, بقوة لكن بهدوء, كل تلك الأشياء التي تسعدهم و تحزنهم. يريدنا أن نعرف ما الذي يحرّك (هولدن) و عائلته, التي كل فرد فيها معقد بشكل واقعيّ. مع توالي حلقات الموسم الثاني, أجيبت الكثير من الأسئلة حول ماضي الشخصيات النفسيّ, (هولدن) و أصدقائه, عائلته, و أعداءه تحولت إلى أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام في التلفاز.
يعتمد Rectify على مسيرة (هولدن) نحو تحديد ما إذا كان شخصاً جيداً أم لا, معضلة لا جواب حاسم لها. لكن Rectify جعل هذه المسيرة مثيرة للاهتمام باستحدام مجموعة من الاحداث و الاختيارات. (هولدن) ذهب إلى حفلة, خاض تجارب حميمية, و استرجع ذكريات الماضي منتشياً مع صديق كان حاضراً يوم وفاة تلك الفتاة. وخلال كل هذا, تساءل (هولدن), كما فعلت, حول الحد الأقصى لتصرفاته و قدراته, أي: هل كان قادراً حقاً أن يفعل أياً ما كان يظنون أنه فعل؟
وكحال The Leftovers, كان لدى Rectify عشرة حلقات ليحكي لنا قصته هذا الموسم, وقد بنى بهدوء و ثقة في 8 حلقات ما أدى إلى حلقتين ختاميتين ضخمتين. بهدوء وثقة خط الكتاب مجموعة من الخيارات التي أثرت على كل الشخصيات.
مشاهد الفلاشباك إلى زنزانة (هولدن) أرتنا كيف كان عالمه ضيقا وخانقاً لعقدين من الزمن, وكيف — بعد إطلاق سراحه — تحول عالمه إلى مساحات شاسعة لا نهائية, لكنه لا يعرف كيف يتعامل معها. Rectify متأن, ولا يخشى أن تطول المشاهد فيه, وإذا كان من نوعية المسلسلات التي تستهويها فإنك ستستمتع فيه لأقصى درجة. ولكنه مع كل هذا, مختلف جداً عن The Leftovers.
في كل حلقة من Rectify تحدث أحداث بالمقدار الكافي لتسليط الضوء على اختيارات شخصياته و مشاكلها, و عندما ينظر (هولدن) أو أخته (أمانثا) أو أخوه غير الشقيق (تيدي) في سهو من نافذة أو شرفة, تكون لدينا فكرة ما عما يدور بخلدهم. مؤلف المسلسل Ray McKinnon (الذي أدى دور الخنفشاريّ ”لينكون بوتر“ في سانز اوف اناركي) و طاقم الكتاب كتبوا في تلك الحلقات مقداراً كافياً من التفاصيل مع ترك مساحة للمشاهد لقراءة مابين السطور و ملئ الفراغات, مستعيناً بما يقدمه لنا المخرج و الممثلون الذين يقومون بالمطلوب منهم بشكل جيد كفاية. ليس لدينا أية مشكلة في معرفة ما يهم هذه الشخصيات وما الذي يزعجها
شخصيات Rectify تحس معها بنوع من الألفة, حتى شخصية (تيدي) الأرعن. كحال (هولدن), (تيدي) الناجح ظاهرياً يتسائل مع نفسه عن معنى أن يكون المرء ”رجلاً“ وتجليات هذا في تقديم الدعم الماديّ و العاطفيّ. وهذا الصراع المزدوج, صراع (هولدن) و (تيدي) مع العنف الجسديّ و العاطفيّ قدم لنا محوراً مثيراً للاهتمام طوال الموسم.
بالمقارنة The Leftovers يبدو وكأنه غير متأكد مما يريد أن يوصله وماهية شخصياته, حتى بعد انقضاء حلقاته العشرة.
وأنا لا أقول هنا أنه لا يجب على أي مسلسل ان يحاول ان يوصل لنا معنى ان تكون محبطاً أو مكتئباً, كلا. لكن Rectify يجعلني اهتم عندما تمر شخصية ما بموقف عاطفي صعب, وكذا في مواقف الفرح و الضحك. بعد موسم كامل مع شخصيات The Leftovers كلها تبدو فارغة أكثر من منشورات ”المذنبون الباقون“.
The Leftovers يحاول بكل وضوح, وبكل يأس, أن يتناول مواضيع عميقة, لكن عوامل كثيرة في المسلسل تبدو معلّبة أو مبتذلة, ولم يساعد المسلسل أن شخصياته كلها غير قابلة للتصديق, بل ساهم هذا في تخبط و تعثر المسلسل.
لربما إن نوّع The Leftovers من نبرته (فليس في الحياة حزن وحسب!), وتعمق أكثر في حياة شخصياته و, بين الفينة و الأخرى, أعطاها شيء لتطمح له, لربما قد يكون مسلسلاً يستحق المشاهدة الموسم القادم. لربما القليل من البهجة قد تحسن من تأثير لحظاته المؤثرة. لكن الموسم القادم, إذا ظلت الشخصيات كلها على نفس لحال, فبصراحة, ما الهدف؟