American Crime عدالة السماء وعدالة البشر

لا أتذكر أخر مرة كنت فيها متحمساً لمسلسل على الشبكات, منذ أن رفع الكيبل سقف ما يمكننا توقعه من المسلسلات التلفزيونية أصبحت مسلسلات الشبكات كلها تبدو رديئة, ممطة, ومُعادٌ تدويرها. وإذا كنتم تتوقعون أنني سأقول تالياً أن American Crime هو أول مسلسل شبكات أتحمس لمشاهدته منذ سنوات… فأنتم مخطئون.

لقد كانت في American Crime كل مقومات مسلسلات الشبكات التي أتجاهلها: حملة ترويجية رديئة, ”مِن الممثل/الكاتب/المخرج/الطباخ الفائز بالأوسكار/الإيمي/بالون دور“ على البوستر, وقصة تقليدية للغاية. لم أعر المسلسل إنتباهاً سوى لاحقاً عندما اكتشفت مديح النقاد له, وحتى في تلك اللحظة لم يكن ذلك كافياً لجعلي أشاهده, ترشح المسلسل وممثلوه للإيمي, قلنا ماشي… فئة المسلسلات القصيرة فيها شح هذه الأيام… وثم إن طاقم المسلسل معروف وجيد, ثم فازت (ريجاينا كينغ) بالإيمي وقلت ”What the hell لنعطه فرصة!“.

هناك أسباب عديدة خلف فوزها بالإيمي لكن سنتطرق لذلك لاحقاً.

american crime

American Crime مسلسل دراما مكون من 11 حلقة يتمحور حول حادثة سرقة ووفاة شاب تنقلب فيها حياة 4 عائلات مختلفة رأساً على عقب, أحداث المسلسل مستوحاة (نوعاً ما) من أحداث حقيقية, لكن ليس حقاً. هذه الشخصيات ليست مبنية على أشخاص بعينهم, لكن هل هناك أشخاص يشبهونهم وسبق لهم المرور من ظروف مماثلة جداً؟ نعم, بدون شك. يعني, بطريقة ما, هذه الشخصيات نمطية (أي Stereotypical), لكنها هكذا عن قصد, هدف هذه القصة هي وضع أشخاص معينين في ظروف معينة وثم رؤية الأمور وهي تحصل أمامك, ثم بعد 11 حلقة قد تخرج بعبرة (أو لا, ففي النهاية هذا أمر يعتمد عليك).

طاقم المسلسل يضم الفائز بالأوسكار أيام زمااااان Timothy Hutton (وبطل Leverage منذ قليل), و المرشحة للأوسكار لكن الفائزة بالإيمي Felicity Huffman (ربة بيت يائسة سابقاً في Frasier), بجانب Regina King (حاذفة طوب في The Leftovers), بالإضافة إلى زمرة من الممثلين لا تعرفون أياً منهم والذي سيقدم بعضهم أداءات أفضل من الطاقم الرئيسي في بعض الأحيان.

عبر التحقيق البوليسيّ يتم تعريفنا بعدة شخصيات مرتبطة بالجريمة, وكذا أشخاص مرتبطين بدورهم بتلك الشخصيات. كل واحدة من تلك الشخصيات تمثل فئة معينة (أو نمط/Stereotype معين إن شئت), وهذه الفئات تختلف من كل النواحي: عرق, دين, أصول, طبقة اجتماعية… الخ, بشكل يجعل كل فئة من المجتمع الامريكي تقريباً مُمَثَلة من طرف شخصية واحدة على الأقل في هذه ”الجريمة الأمريكية“.

REGINA KING

لكن يمكن القول أن مشكلة العرق هي المشكلة الرئيسية التي يتناولها المسلسل, وعندما نتكلم عن العرق فإننا نتحدث مباشرة عن العنصرية, مثلاً, في الحلقة الأولى عندما تقول الشرطة أن المشتبه به قد يكون هسبانياً, شخصية (فيليسيتي هافمان) تقفز مباشرة إلى استنتاج أن إبنها قتل من طرف مهاجر غير شرعيّ. لكن لا يمكن القول أن المسلسل يتناول قضية العرق فقط, بل يمكن القول أنه — على نطاق أوسع — المسلسل يحاول مناقشة الإفتراضات المسبقة التي بداخل كل واحد منا (مثلاً: إفتراض أن كل مسلسل من HBO هو مسلسل ممتاز, هل شاهدت ”جون من سينسيناتي“ يا صاح؟) ويهدف إلى جعلنا نتخلى عن تلك الإفتراضات المسبقة حول الناس.

نظرياً, هذا المسلسل لم يمكن له أن يأتي في وقت أنسب من هذا, مشاكل العرق والعنصرية في أشدها هذه الأيام بالولايات المتحدة, بداية بمشكلة العلم الكونفدراليّ إياه, ثم الجرائم التي ارتكبها أشخاص أو جماعات عنصرية, ثم (رغم أن المسلسل عرض قبلها بشهور) الإنتخابات الرئيسية التي يترأس سباقها (دونالد ترامب) الذي جعل من طرد المهاجرين الغير شرعيين هدفه الرئيسيّ (وبناء سور ضخم ثم جعل المكسيك تدفع ثمنه! ?).

American Crime

هذا مسلسل جريمة لكنه ليس مسلسل غموض, الشرطة بالكاد تظهر في المسلسل والتركيز يتم كلياً على أثار الجريمة وتأثيرها على شخصيات المسلسل, وهذا تغيير مطلوب على هذا النوع من المسلسلات الذي أصبح مبتذلاً جداً على الشبكات, وهذا يعني أن هذا المسلسل يذهب حيث ترفض المسلسلات الأخرى أن تذهب. ستكره بعض الشخصيات (وربما ستكرههم جميعاً مثلي), ليس لأنها شخصيات شريرة (هذا المسلسل هدفه أصلاً إثبات أن الناس ليسو يا إما أبيض أو أسود, حرفياً أو مجازياً) بل لأنها شخصيات حقيقية للغاية وهي نتاج للمحيط الذي نشأت فيه والظروف التي صنعتها.

بجانب الطاقم التمثيليّ المتمرس وكذا الكاتب الأوسكاريّ, المسلسل تم تصويره باحترافية عالية لدرجة أنه لو تم تقديمه لك من غير شعار القناة قد تظن بكل سهولة أنه مسلسل من HBO أو مسلسل كيبل على أقل تقدير, وهذا تقريباً أكثر شيء أبهرني في المسلسل بعد سنوات من مشاهدة مسلسلات الشبكات المصنوعة برداءة أو بجودة متوسطة للغاية.

لكن مع كل هذه الإيجابيات توجد سلبيات كثيرة, ربما ليست سلبيات وإنما أشياء منعت المسلسل من أن يخرج أفضل من الشكل الذي خرج عليه. يستحق American Crime التصفيق لمحاولته سرد قصص حول العنف والعنصرية والمخدرات وكونه مسير بالشخصيات وليس بالأحداث, لكن لكي يعمل كل هذا يجب أن تكون الشخصيات مثيرة للاهتمام. سبب أنني قلت سابقاً ان أداءات بعض الممثلين الجانبيين أفضل من الرئيسيين ليس لأن الرئيسيين ممثلون سيئون, على النقيض من ذلك تماماً, المشكلة أن النص كان يفتقد حقاً للتركيز. المسلسل جيد لكن قليل من التركيز كان ليجعله رائع.

American Crime

بداية, تم إعطاء كل الشخصيات تفاصيل أكثر مما تحتمل, في كل حلقة كنا نكتشف شيئاً جديداً عن شخصية أو أخرى لدرجة أنه بنهاية الموسم كل شخصية لديها عدة تفاصيل لكنها تفتقد إلى التركيز, من الأفضل أن تكون شخصياتك شيئاً واحداً على أن تكون عدة أشياء, على الأقل, لا تجعل كل شخصياتك عدة أشياء, ومع كثرة الشخصيات فإن إنعدام التركيز هذا كان له أثار واضحة على المسلسل. وعلى ذكر كثرة الشخصيات, المسلسل كان مركز جداً على إعطاء كل الشخصيات نفس الحيز الزمني على الشاشة لكن المشكلة أنه ليست كل الشخصيات مثيرة للاهتمام, فبدل إعطاء المزيد من الوقت لديناميكات العائلة التي يجيدها المسلسل نجد أنفسنا, على سبيل المثال, نتابع قصة شاب أسمر وصديقته القوقازية وهما يتعاطيان المخدرات, طبعاً هذا مجرد بناء لأحداث مستقبلية في القصة لكنك لا تعرف ذلك, لذلك في لحظة مشاهدتك لذلك أنت غير مهتم حقاً بأي من تلك الشخصيتين, وذلك لأنه المسلسل لم يستطع جعلهما مثيرتين للاهتمام.

لكن عيب المسلسل الأكبر هو أنه جد متوقع, وقد يكون هذا الأمر من تجربتي الشخصية لكنني لم أصدم من الأحداث ولم أتفاجئ من المسار الذي اتخذته القصة مع كل شخصية, وأنا شبه متيقن أن بعضكم سيخمن ما سيحدث على بُعد عدة حلقات مباشرة دون الحاجة لمشاهدتها, لكنني لا أعرف هل هذا كان مقصود في كتابة المسلسل (يعني تجريد المسلسل من المفاجئات وعدم استخدام الأحداث لأجل الصدمة) أم أنها فقط ردة الفعل الطبيعية لشخص شاهد الكثير من مسلسلات الشبكات وأصابه الضجر منها.

American Crime

كل هذا ليس الهدف منه قول ان American Crime مسلسل سيء, على العكس, إنه مسلسل جيد, مشكلته أنه كان من الممكن أن يكون جيداً جداً, مشكلته الأخرى هو أنه جاء في نفس الموسم مع Olive Kitteridge الذي كوّش (بكل استحقاق) على كل الجوائز, ولم يترك سوى جائزة وحيدة للـAmerican Crime فقط لأن Olive Kitteridge لم يكن لديه مرشح جيد فيها, ولهذا السبب فازت Regina King, التي لعبت دور المرأة المسلمة (عليا شديد) بكل براعة لكن ليس لدرجة إستحقاق جائزة إيمي, لكن في غياب أي منافسة حقيقية فإن الجائزة ذهبت بشكل طبيعيّ لها. أيضاً لا يضر أنها تستحق جائزة عن دورها في Southland الرائع.

الخلاصة هو أن American Crime أعطى حيوية مطلوبة لمسلسلات الشبكات وأعاد لي القليل من الأمل فيها, لأنه وسط كل هراء الأبطال الخارقين والعلماء الغير مضحكين هناك دائماً مكان لسرد جاد لقصص واقعية تذهب إلى الجانب المظلم من النفس البشرية.

التقييم النهائيّ

الكتابة:
التمثيل:
الإخراج:
رأي شخصي:
7.25 / 10 American Crime هو سرد لا يتلكأ ولا ينحاز في واقعيته عن وصف الامور كما هي عليه في الحقيقة دون تجميلها او تلميعها, لأنه أحياناً في تلك الزوايا المظلمة من النفس البشرية لا يوجد ضوء في اخر النفق.